أصوات المهاجرين تدك حصون إسبارطة
19 سبتمبر 2025
ذهب بنيامين نتنياهو في خطابه الأخير إلى ما هو أبعد من لغته التهديدية المعتادة، إذ بدا كلامه أقرب إلى صرخة تكشف عمق المآزق التي تطوّقه من جميع الجهات. فهو يواجه أزمة داخلية تتمثّل في ملفات الفساد التي تلاحقه قضائيًا، إلى جانب الاحتجاجات الشعبية على سياساته. كما يواجه أزمة عسكرية - سياسية كشفت حدود القوة الإسرائيلية التي لم تُحرَّر الرهائن، ولم تُصفَّ المقاومة، وتعثرّت عملياتها البرية بلا نصر حاسم. وفوق ذلك كله هناك أزمة دولية مع اتساع العزلة وارتفاع وتيرة الانتقادات في أوروبا والأمم المتحدة، نتجت عنها أزمة سردية غير مسبوقة، فالمزاج العام في أوروبا انقلب تحت ضغط موجة التضامن الشعبي مع فلسطين، حيث راحت الشوارع والساحات تكتب رواية مضادة تُفكك ما اعتادت الدبلوماسية الإسرائيلية تسويقه عن "القلعة المحصّنة" التي بدأت تتصدّع، رمزيًّا، تحت وابل أصوات الأحرار، من مهاجرين وطلّاب ونقابيين وحركات يسارية تفهم القضية الفلسطينية بوصفها قضية حقّ وعدالة.
حين يصف الخطاب المهاجرين والناشطين المؤيدين لفلسطين بأنهم "متشدّدون إسلاميون" أو "متطرفون يساريون"، فهو لا يكتفي بمحاولة وصمهم وتشويههم، بل يعبّر عن الخوف منهم، لأنّ مجرد اتهامهم بأنهم "يؤثرون على الحكومات"، أو "ينكرون الصهيونية"، ليس هذا سوى إقرار بأن الحراك التضامنيّ الكبير بات قادرًا على زعزعة الأسطورة التي حصّنت إسرائيل طويلًا من مختلف أشكال المحاسبة، أو حتى النقد، وبات يضعها في موقع المساءلة والمقاطعة. يفضح هذا الغضب الجماهيري العابر للحدود بنية استعمارية كاملة، وليس مجرد سياسات عسكرية فقط، ولهذا يحوّل التضامن مع فلسطين إلى وقوف مع قضية عدالة كونية، تقاس فيها شرعية الدول بقدرتها على احترام الحق الإنساني. وهكذا تنتقل إسرائيل من موقع "ما فوق النقد" إلى صورة دولة الجريمة والإرهاب الجديرة بالعزل.
لم يجد نتنياهو، في لحظة عريه السياسي والأخلاقي، سوى صورة القوة المفرطة ليستعيرها: إسبارطة. ويمكن فهم هذه الاستعارة من زاويتين: الأولى أنه أراد بها طمأنة الداخل الإسرائيلي والتغطية على عجز تحقيق الأهداف المعلنة للحرب، وفي مقدمتها تحرير الرهائن، عبر تذكير جمهوره بأن إسرائيل هي "الأقوى" عسكريًا وتكنولوجيًا. غير أن هذه الصورة، التي تبدو مدعاة للفخر، ليست سوى قناع على وجه مشوّه، فإسبارطة لم تكن سوى ثكنة لا تعرف سوى الحرب. أما الزاوية الثانية فهي رسالته إلى أوروبا بأن إسرائيل قادرة على المضي وحدها كقوة عسكرية مكتفية بذاتها، حتى لو كان الثمن فقدان الغطاء السياسي والأخلاقي، في ابتزاز واضح يلمّح إلى أن استمرار التحالف مرهون بالتغاضي عن الإبادة.
لا بد لنا من أن نسمع هنا تردّد صدى كلمات محمود درويش في "خطبة الهندي الأحمر" حين وصف إسرائيل بأنها "إسبارطة التكنولوجيا"، أي كيان يعيش على تحويل الموت إلى مشروع، ويعجز عن تقديم معنى للعدالة أو الحقوق. وإذا نطق الشعر بهذه الحقيقة رمزيًا، فإن الإنسانية تراها واضحةً في ساحات العواصم الكبرى، حيث يكشف المهاجرون وحركات التضامن، ومنهم الناشطون على المنصات أيضًا، أن ما يُسوّق كقوة عظمى ليس سوى ضعف أخلاقي عارٍ أمام أعين العالم.
قائد ومشروع عنصري يعيشان على الإبادة، ويطاردهما الشارع العالمي بكلمات وصور أعتى من الترسانة التي يتباهيان بها
يفتح الخطاب جبهة جديدة ضد المهاجرين العرب والمسلمين في أوروبا. فهو يربط صعود التضامن مع فلسطين بتأثير "الأقليات الإسلامية" على الحكومات الأوروبية، مقدّمًا هذه المجتمعات كعامل تهديد يفسّر عزلة إسرائيل الدولية. بهذا المعنى، يصبح المهاجرون هدفًا مباشرًا للتحريض، فيُجرَّمون مرتين، مرة بسبب هويتهم، ومرة أخرى لأنهم يرفعون أصواتهم ضد الإبادة التي لا يريد الإسبارطي إيقافها.
أخرجت حركة التضامن عرب أوروبا ومسلميها من دائرة العزلة إلى قلب الحراك العام، ليس بوصفهم جماعات منغلقة، بل كجزء من تيار شعبي واسع يناهض الصهيونية واليمين المتطرف معًا، ويرفض الصمت على جريمة العصر.
يتقاطع المهاجرون مع طيف متنوع من الحركات الاجتماعية، منها أصوات يهودية يسارية تعلن رفضها أن تُختزل اليهودية في المشروع الصهيوني، وترى أن الدفاع عن فلسطين هو أيضًا دفاع عن قيم العدالة داخل اليهودية نفسها، ومع الصوت الأسود الذي يرفع شعار "حياة السود مهمة"، واضعًا فلسطين في صلب معركته ضد العنصرية الممنهجة، ومع الحركات اليسارية والنسوية والطلابية والبيئية التي ترى في غزة مرآة تكشف نفاق السياسات الغربية في حقوق الإنسان.
هكذا يتشكل فضاء جديد عابر للجغرافيا والهويات، حيث لا تعود فلسطين قضية تخص الفلسطينيين والعرب وحدهم، لكنها تتحول إلى رمز جامع يربط بين تاريخ الاستعمار في الجنوب العالمي وتجارب القهر في المدن الأوروبية. إنه فضاء تُكتب فيه سردية مضادة، حيث يُرى المهاجرون بوصفهم طاقة سياسية وأخلاقية تُعيد تعريف العدالة وتفضح هشاشة الخطاب الرسمي، وليسوا مجرد عبء على الغرب.
خطاب نتنياهو اعتراف مضمر بأزمة السردية الإسرائيلية غير مسبوقة. فهذه السردية التي قدّمت إسرائيل على أنها "واحة ديمقراطية" تتآكل بشكل متسارع ويُفتضح أمرها، فالصور القادمة من قطاع غزة، وصوت المهاجرين وحلفائهم، يعيد كتابة القصة باللغة الأكثر صدقًا: إسرائيل مشروع إبادة ممنهجة.
وفي مواجهة هذا التآكل السردي، يجد نتنياهو نفسه أقرب إلى اليمين الشعبوي الأوروبي، الذي يهاجم المهاجرين والمسلمين بدوافع عنصرية داخلية، لكنه يلتقي مع الخطاب الصهيوني في معاداة الأصوات التضامنية مع فلسطين. هكذا يتكوّن تحالف غير معلن بين مشروع استعماري في المنطقة العربية وتيارات قومية متطرفة في الغرب، وكلاهما يعيش على الخوف والتحريض ويستمد شرعيته من شيطنة "الآخر".
خلاصة خطاب نتنياهو أنه اعتراف صريح بأنه زعيم دولة استعمارية فقدت القدرة على الإقناع، وأن كل الطائرات والدبابات التي تمتلكها غير قادرة على حماية سرديتها.
وهكذا تنكشف الصورة مثل رسم كاريكاتيري: قائد ومشروع عنصري يعيشان على الإبادة، ويطاردهما الشارع العالمي بكلمات وصور أعتى من الترسانة التي يتباهيان بها.