1. قول

أفكر فيهم، فأموت ألف مرة

3 سبتمبر 2025
بورتريه
بورتريه (ناجي مرار)
زياد خداش زياد خداش

ستظل الصورة في رأسي حتى مماتي، عجوز من غزة في طريق ترابي يمشي دائخًا دون اتجاه، لكنه يقترب من بيت مهدوم، ويقف محاولًا التعرف على المكان، كان يبدو عليه المرض أو التعب أو الخوف، فجأة يسقط عليه صاروخ، ويفتته الى قطع، فيما بعد عرفت من أصدقاء أنه مريض عقلي معروف في الحي، كان يحاول العودة الى بيته.

لا يعرفون ماذا يدور حولهم، تائهون مفقودون، بلا بيوت وأهل ومشافي، بلا أصدقاء، يتنقلون من منطقة الى أخرى دون اتجاه، يقصدونه، بعضهم يسقط شهيدًا أو أسيرًا، بعضهم أكلت جثته الكلاب، لا يتذكرون ماذا حدث لهم بالأمس، لا يحبون السياسية، ولا يهمهم ماذا حدث في 7 أكتوبر، ولا يكترثون إن كان الطقس حارًا أم باردًا، كل ما يطلبونه من العالم هو علبة الدواء الضائعة التي فقدوها في الحرب المجنونة (الزنكس). 

يركضون مع الراكضين تحت طائرات المساعدات الغذائية، ينهمرون على الكراتين، يمزقونها بحثًا عن علبة دواء، لا يجدون سوى الأرز والطحين والسكر والشاي والشوكلاتة، الخ، ولا دواء، لا دواء ليوقفوا به تلك الدوامات الغريبة التي تضج في رؤوسهم.

لا يعرفون ماذا يدور حولهم، تائهون مفقودون، بلا بيوت وأهل ومشافي، بلا أصدقاء، يتنقلون من منطقة الى أخرى دون اتجاه، يقصدونه، بعضهم يسقط شهيدًا أو أسيرًا، بعضهم أكلت جثته الكلاب، لا يتذكرون ماذا حدث لهم بالأمس، لا يحبون السياسية

 الأمراض العقلية، أمراض القلق المعمم، الاكتئاب، رهاب الخلاء والحشود، ثنائي القطب، الفصام، نوبات الهلع، الخ، هذه الامراض موجودة بغزة كما هي موجودة في أي مكان بالعالم، وهي تحتاج الى بيئة مناسبة للعلاج، قال لي صديق من غزة، بعد أن عاد الناس الى بيتوهم المهدمة اثناء الهدنة، كان هناك من يبحث عن طعام مدفون أو أغطية وأغراض بيتية، وكان هناك من يحفر بتوتر، تحت الأنقاض ليعثر على علبة دواء لمرض نفسي يعيشه.

يقول صديقي الكاتب وأخصائي الأمراض النفسية سعيد محمد كحلوت :"دمرتْ الحرب مستشفى الطب النفسي، المستشفى الوحيد الذي يقدم خدمات الصحة العقلية في غزة، ثم ركلت بحذائها العسكري الضخم مرضى المستشفى ومراجعيه، وأغلقت في وجوههم أربع عيادات كانت تقدم خدمات الرعاية النفسية الأولية لهم".

وحال الحصار المُشدد دون حصولهم على الأدوية الضرورية التي لا تصرف لهم إلا بعد مراجعة وموافقة الأطباء النفسيين.

فساح المرضى النفسيون في الشوارع يَتجرعون مرارة ما يعانوه أصلًا قبل الحرب، فلما اُلقي بهم في الشوارع زادتْ المُعاناة وتَضاعفتْ الأزمة بمستوياتها المختلفة فرديًا وأسريًا ومجتمعيًا. 

تضرب قلوبهم نوبات الهلع وتضيق حول أعناقهم حلقات الاكتئاب وتحاصرهم أسوار القلق الشاهقة، وتستفرد بهم الذكريات الصادمة في الصحو وفي النوم، هذا إن استطاعوا النوم، تنهال عليهم الوحوش كوابيسًا وتُلقي بهم الهلاوس والضلالات في الركن النائي من الحياة، ثم توبخهم الأصوات الداخلية عند أقل هفوة فيسقطون أرضًا يحاولوا أن ينهضوا فيجدوا أنفسهم قد سقطوا عميقًا في حُفر الشك من كل شيء حولهم، تشل حركتهم سلاسل الوسواس فيجدوا أنفسهم مقهورين لطاعة سلطة الاضطراب، تمطر عقولهم  مطرًا أسودًا  من أفكار لا نهائية ليجد بعضهم في الموت راحة من كل هذا الاذى .

فإن عَزّتْ الحرب عنهم الموت قتلًا فالانتحار هو الحل. ومن لم ينتحر منهم يحول حياته وحياة المحيطين به إلى جحيم يحرق آدامية الطرفين.

بالأمس، في عيادة الصحة النفسية، حضر مهندس يطلب صرف دواء مضاد للذهان لشقيقته المصابة باضطراب الفصام العقلي. والحق أنني كنت أعرف الرجل قبل الحرب بهدوئه ودماثة خلقه.

لكنه، وتحت ضغط ما تقوم به شقيقته المصابة بالذهان، والتي يُفترض أن تتلقى خدمات المبيت في مستشفى الطب النفسي، وجد نفسه في لحظة انفجار، رافعًا آلة حادة في وجوهنا نحن طاقم العيادة، ومهددًا بقتلنا ما لم نوفر لها دواء "اللبوبنكس".

صاح الرجل فينا: "أختي تريد أن تقتل طفلتي يا عالم يا ظالم، أريد الدواء الآن ... ".

غير أنّ الدواء مفقود، وإجراءات الحرب والحصار تحول دون حصول المرضى على حقهم فيه.

أفكر فيهم كل يوم، كل يوم، ماذا يفعلون الآن؟ أتخيلهم في دمارهم وجوعهم ويأسهم ومتاهاتهم وشكوكهم وحيرتهم وتفكيرهم بالانتحار

قصة المهندس وشقيقته المريضة واحدة من عشرات القصص التي تتكرر يوميًا في العيادة النفسية الوحيدة في رفح والتي تقدم خدماتها لأكثر من مليون ونصف المليون نازح، معظمهم صاروا بحاجة لجلسات الدعم والعلاج النفسي بفعل الضغط النفسي الحاد الذي يتعرضون له على مدار الساعة تحت الحرب.

أفكر فيهم كل يوم، كل يوم، ماذا يفعلون الآن؟ أتخيلهم في دمارهم وجوعهم ويأسهم ومتاهاتهم وشكوكهم وحيرتهم وتفكيرهم بالانتحار. وأموت ألف مرة. ليس في برنامج الجندي القاتل أن يسأل أو يعرف طبيعة أو موقف البشري الذي يتحرك، أمامه، المهم أنه فلسطيني، وهذا يكفي لوقف حياته. 

قالت لي إيمان: أن شقيقها المريض نفسيًا، خرج ولم يعد، وطلبت عبر منشور مساعدتها في ايجاده، فهو لا يعرف أي شيء عن 7 أكتوبر، أرسلت لإيمان عشرات الرسائل في أوقات متباعدة: هل وجدت شقيقك؟ هل عاد؟ ودائما الإجابة بالنفي.

أين هو الآن؟ أجثة متحللة صارت في جوف كلب؟ أم في الأسر، يحدق في وجه محقق متوتر؟ أم ما زال يمشي بحثًا عن شيء لا يعرفه؟

كلمات مفتاحية
ساذج نصار

في مديح امرأة فلسطينية قوية

اسمها ساذج نصّار (1900-1970)، وُلدت في الناصرة وماتت في دمشق، من أصول إيرانية، والدها بديع الدين بهائي كان مقيمًا في عكا

شارع الرشيد في غزة

من شارع الرشيد إلى القصيدة.. خريطة الوجع الأخيرة

ليس هذا فقط حكاية خسارة فردية: إنه ثمن سياساتٍ وحروبٍ ومؤامراتٍ تَسلبُ المدنَ وجراحَها، وتحوّلُ البياضَ إلى خريطةٍ للغائبين

برج كنيسة الفادي

بنحبك أستاذ عبود

بين مطعم "أبو خليل" و"كافيه زمن"، لاحظتُ عبارة كُتبت بالأحمر على جدار أحد البيوت. وقفتُ وقرأت: "بنحبك أستاذ عبود"، ولا شيء غير ذلك

قوات الدعم السريع
سياق متصل

الحرب في السودان: هل تلوح مؤشرات لوقف التصعيد؟

يبدو الوضع في السودان متأرجحًا بين خيار التصعيد أو الهدنة الإنسانية المقترحة من قبل الآلية الرباعية الدولية

الأفراح في اليمن (شبكات التواصل الاجتماعي)
فنون

الفن في زمن الحرب: الأعراس تعيد رسم خريطة الغناء اليمني

الأفراح والغناء اليمني

مهرجان اندي تشينا - Getty
نشرة ثقافية

الرقابة الصين تتسبب في إلغاء مهرجان سينمائي مستقل في نيويورك

الرقابة في الصين والمهرجانات الفنية

حي الشيخ رضوان
سياق متصل

تصعيد إسرائيلي مزدوج: حصار خانق على غزة واعتداءات مستمرة في الضفة الغربية

واصلت قوات الاحتلال الإسرائيلي فجر السبت شنّ غاراتها الجوية على قطاع غزة، في خرق جديد لاتفاق وقف إطلاق النار، بالتزامن مع تصاعد الاعتداءات في الضفة