إسرائيل تقتحم زنزانة فلسطين
15 أغسطس 2025
يشكّل الجسد الفلسطيني الأسير موقع مواجهة في الصراع مع الاستعمار الإسرائيلي. لأنه فضاء سياسيّ يختزن طبقات من المعنى، تقوم على الذاكرة والصمود وإعادة إنتاج الشرعية، وليس لأنه مجرد ضحية وحسب.
في كل مواجهة بين أسير من أسرانا وسلطات الاحتلال، ينعكس ميزان القوة الماديّ لصالح المستعمِر، لكنه في الوقت نفسه يكشف الخلل البنيوي العميق في الرواية الاستعمارية حين تحتاج، بشكلٍ مستمر، إلى استعراض هيمنتها أمام أجساد عزلاء، لأنها كل ما تخشى.
في هذا السياق، جاء المشهد الأخير لاقتحام الفاشيّ إيتمار بن غفير زنزانة المناضل الأسير مروان البرغوثي، بعد سنوات غاب فيها عن الظهور العلني، بوصفه مختبرًا مكثّفًا لهذه المواجهة.
المكان ضيق حد الاختناق، والحاضرون مدججون بالسلاح والكاميرات. مشهد بدا عبثيًا للوهلة الأولى، لكنه بقليل من التأمل سيبدو مكتظًا بالرمزية حتى أقصى أقاصيها، لأنه لم يكن مجرد تفقد روتيني، بل هو طقس سياسي مكتمل الأركان، يقوم على استعراض القوة لنفسها أمام جمهورها الداخلي والخارجي. إذ ترى تلك القوة أن لحظة الاقتحام تصلح لتذكير أتباعها بالبديهيات: نحن نحتجزهم، ويمكنكم أن تروا ما نفعل بهم، فثقوا بقوتنا.
لا تهدف القوة الاستعمارية بهذا الإخراج المسرحي البائس إلا إلى إعادة إنتاج صورة الهيمنة، حتى لو لم يضف ذلك شيئًا جديدًا على واقع الأسر.
ربما يبدو الكلام الكثير لبن غفير طقسًا من طقوس الهيمنة، إلا أن الصمت الذي يبديه البرغوثي لا يفعل شيئًا سوى تقويض هذه الطقوس
فبالنسبة للأسرى، هذه لحظات مألوفة ويعرفونها جيدًا، ويدركون ما تحمله من شغف بالاستعراض لدى الفاشيين، حتى أن بعضهم لا يكتفون بالزيارات بل يمارسون التعذيب بأيديهم، وبن غفير معروف بذلك.
إلا أن السؤال الأعمق هنا: ما الذي يدفع قائدًا سياسيًا في كيان فائض بالقوة والتكنولوجيا العسكرية، ومجرّد من أي تهديد أمني حقيقي، إلى اقتحام زنزانة سجين؟
أليس الجواب، غير المعلن، كامن في إقرار خفيّ في أن تهديد هذا الجسد يأتي من المعنى الذي يختزنه، ويجعله عصيًا على القمع.
ولأنه يعرف جمهوره على نحو عميق، يقدم الاحتلال له هذا الفيديو، فالجمهور يريد لقطة لا حقيقة. وهذا ما جعل دخول بن غفير إلى زنزانة البرغوثي يشبه دخول مؤثّر إنستغراميّ إلى مطعم جديد، حيث يتصور ويتحدث كثيرًا، دون أن يهتم بأن الفعل فارغ وسخيف، فالمهم أن الجمهور سيرى "الهيبة" و"المهابة" ويضغط زر الإعجاب.
هذا محتوى تافه وليس سياسة. هذا تصميم لإشباع رغبة القطيع بتحويل القمع إلى مشهدية، ومن ثم تحويل تلك المشهدية إلى واقع.
هكذا يباع الوهم بوصفه قوة، ويُقدّم الفراغ بوصفه انتصارًا.
جسد المقاومة وحيد وصامت، ليس له سوى قيوده وهزّ رأسه. جسد قليل أمام كثرة الأجساد المقتحمة المحملة بكلامها وسلاحها.
في منطق السياسة العميق، ربما يبدو الكلام الكثير لبن غفير طقسًا من طقوس الهيمنة، إلا أن الصمت الذي يبديه البرغوثي لا يفعل شيئًا سوى تقويض هذه الطقوس، إذ يحوّل الجسد إلى خطاب، ويترك السلطة تتكلم في فراغ، متورّطةً في استعراضها الوحشي الذي يفقدها شرعيتها بدلًا من أن يزيدها.
سيجد هذا المشهد، على اختلاف طبقاته الرمزية، صداه في أفلام إيليا سليمان مثل "سجل اختفاء" و"يد إلهية" و"الزمن الباقي": حقل الرماية يتحوّل فيه جسد الفلسطينيّ إلى مسيح مسلّح، وبذرة مشمش تفجّر دبابة دخيلة على الحياة اليومية، والدبابة التي تلاحق شخصًا خرج لإلقاء القمامة.
صُنعت هذه الصور بهذه الكثافة الشعرية لتعكس واقع الضعيف الهشّ الذي يحفل بالرمزية، حيث يقاوم الجسد بالعادي، ويستمر الاحتلال في رقابته وقتله وجنونه، وبهذين الشكلين يصنع كل طرف قيمته ومعناه.
الفلسطينيون بارعون في تحويل وقائعهم اليومية إلى رموز، مثلما فعلوا ذلك مع الزيتون والزعتر وحنظلة والبطيخة وجمل المحامل وقبة الصخرة.
وفي لحظة دخول بن غفير إلى زنزانة البرغوثي، لن يروا مواجهة بين وزير فاشي وأسير بمقدار ما سيرون مشهدًا أيقونيًّا: جسد قليل أمام كثرة مدججة، صمت يواجه ضوضاء.
وكما صارت البطيخة علمًا حين مُنع العلم، يمكن أن يتحول هذا الصمت إلى خطبة كاملة تواجه نشاز الاستعراض الاستعماري.
فلسطينيًا، لا يحتاج مروان البرغوثي إلى شرح؛ فاسمه كافٍ ليختصر سيرة قائد سياسي أسير. وفي المخيال الفلسطيني الجمعي، لم يعد مروان مجرد شخص، بل هو ذاكرة حية لحق لا يمكن ان يسقط بالتقادم.
على المقلب الآخر، قدّم بن غفير منذ صعوده التجسيد الأكثر صفاقة وانكشافًا لإسرائيل المتطرفة والعمياء، لإسرائيل القتل والإبادة والتهجير. رجل يتحدث كما لو أنه دخل أو خرج من مجزرة توًّا، يصرّح بعنجهية تصريحات قاتل قادم من أخوية من العصور الوسطى، مع أنه يقف على رأس جهاز سياسي وأمني وحزبي معاصر.
مواجهة الزنزانة بين مشروعين متناقضين: واحد يستمد معناه من صموده وصمته، وآخر يعيش على الاستعراض والثرثرة والشعور المتخم بالحق باضطهاد البشر وارتكاب الجرائم.
قالت الزنزانة أشياء كثيرة، أوضحها ان القوة كانت في العين التي لم ترمش أمام المقتحمين، وليس في أيديهم التي تحمل مفاتيح السجن.