يواجه الأطفال في قطاع غزة خطر المجاعة والموت البطيء تحت الحصار، وسط انهيار في النظام الصحي ونقص حاد في الغذاء والمياه، في ظل مواصلة جيش الاحتلال الإسرائيلي منع دخول المساعدات الإنسانية والطبية منذ أشهر، وسط تحذيرات أممية من تصاعد سوء التغذية إلى مستويات كارثية، في الوقت الذي تفقد الأسر القدرة على تلبية احتياجات أطفالها الأساسية، وتتزايد المخاوف من ارتفاع في أعداد الأطفال المصابين بسوء التغذية الحاد.
وبحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فإن عدد الشهداء في غزة ارتفع منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 إلى أكثر من 52,600 شهيد، بينهم 18 ألف طفل، ونحو 12,400 امرأة، مضيفًا أن عدد الأطفال والنساء المفقودين جراء حرب الإبادة الجماعية المتواصل بلغ 4,700 طفل وامرأة.
وجبة حساء من الماء المغلي والملح
تروي السيدة الغزية، شيماء فتوح، في شهادتها لصحيفة "ذا صنداي تايمز" البريطانية صعوبة تأمين حليب الأطفال، بالإضافة إلى الأطعمة المُكملة للغذاء لمساعدتها على إرضاع طفلتها. تقول فتوح إن زوجها يخرج يوميًا للبحث عن الطعام بين أنقاض المنازل المُدمرة، لكنه "في معظم الأيام، يعود بلا شيء، والدموع في عينيه".
يواجه الأطفال في قطاع غزة خطر المجاعة والموت البطيء تحت الحصار، وسط انهيار في النظام الصحي ونقص حاد في الغذاء والمياه، في ظل مواصلة الاحتلال منع دخول المساعدات منذ أشهر
وتضيف فتوح أنها تقوم في بعض الأيام بإعداد الحساء من الماء المغلي والملح، مشيرة إلى أنها تقوم بذلك فقط لإعداد "حساء دافئ، حتى يشعر الأطفال وكأنهم أكلوا شيئًا". ومع ذلك، فإن هذا الحساء ليس بديلًا عن وجبات الطعام الحقيقية. تقول فتوح إن ابنتها سألتها في أحد الأيام "ماما, لماذا لا طعم لهذا الطعام؟"، ثم أضافت "لم أستطع الإجابة عن هذا السؤال"، ملخصة الوضع المأساوي في غزة بالقول: "كيف يمكن لأم أن تطبخ وهي لا تملك شيئًا من المكونات، ولا حتى وسيلة للطهي؟".
تشير "ذا صنداي تايمز" إلى أنها كانت قد وثقت اللحظات الأولى لولادة شام عبر عملية قيصيرية في كانون الثاني/يناير الماضي، وهي الطفلة الثالثة بين أخوتها، لافتةً إلى الأطباء أجروا العملية بدون تخدير لعدم توفره. كما أن الطفلة تعاني من ثقب في القلب، لكنها لم تتمكن من الخضوع للجراحة المنقذة للحياة التي تحتاجها.
والآن بعد أربعة أشهر من ولادة شام، أصبحت أمنية فتوح الوحيدة هي أن تحافظ على حياة عائلتها، بعد أن فرضت جيش الاحتلال حصارًا كاملًا على قطاع غزة منذ الثاني من آذار/مارس الماضي، مما أدى إلى استنزاف الإمدادات المحدودة التي كانت قد أُدخلت أثناء سريان الهدنة.
ناشطون ووسائل إعلام تداولوا مشاهد مصورة توثّق اشتعال النيران في الخيام، وتحوّل بعض الجثامين إلى أشلاء متفحمة.
اقرأ أكثر: https://t.co/zo50t5dtUt pic.twitter.com/z6HGP4oGOl
— Ultra Sawt ألترا صوت (@UltraSawt) May 18, 2025
تقول فتوح لـ"ذا صنداي تايمز" إنه "تغير كل شي منذ أكثر من ثلاثة أشهر على بدء الحصار الغذائي"، وتابعت مضيفة لقد "اختفى الطعام، قُطِع الماء، وأصبح من الصعب الوصول إلى أي شيء. وشام، طفلتي الصغيرة، هي أكثر من يعاني".
أكثر من 70 ألف طفل مصابين بسوء التغذية
وفقًا لتقرير التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي الصادر مؤخرًا، يُتوقع أن يواجه نحو 470 ألف شخص في قطاع غزة حالة جوع كارثية المرحلة الخامسة والأشد من التصنيف، وذلك خلال الفترة بين أيار/مايو وأيلول/سبتمبر 2025، ما يمثل زيادة بنسبة 250% مقارنة بالتقديرات السابقة، مؤكدًا أن جميع السكان يعانون من مستويات حادة من انعدام الأمن الغذائي.
ويتوقّع التقرير ارتفاع أعداد الأطفال المصابين بسوء التغذية الحاد إلى 71 ألفًا، إلى جانب أكثر من 17 ألف أُمّ بحاجة إلى علاج عاجل، مقارنة بـ60 ألف طفل كانوا محتاجين للعلاج في مطلع العام. كما رجّح التقرير أن تؤدي العمليات العسكرية المتجددة، والحصار الكامل المستمر، والنقص الحاد في الإمدادات الأساسية، إلى تجاوز انعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية الحاد ومستويات الوفيات لعتبات المجاعة خلال الأشهر الخمسة المقبلة.
وأكدت 17 وكالة تابعة للأمم المتحدة ومنظمة غير حكومية أن الغالبية العظمى من أطفال غزة يواجهون حرمانًا غذائيًا شديدًا، مع توقع زيادات سريعة في معدلات سوء التغذية الحاد في شمال غزة وغزة ورفح، في ظل محدودية الوصول إلى الخدمات الصحية والنقص الحاد في المياه النظيفة والصرف الصحي. وقد دفع ذلك المديرة التنفيذية للبرنامج إلى التحذير من أنه "إذا انتظرنا حتى يتم تأكيد حدوث المجاعة، فسيكون الوقت قد فات بالفعل بالنسبة للكثير من الناس".
تقرير جديد كشف أن انعدام الأمن الغذائي الحاد يواصل الارتفاع بمعدل مقلق، حيث بات نحو 300 مليون شخص مهددين بالموت جوعًا.
اقرأ أكثر: https://t.co/pkxms8NBf6 pic.twitter.com/HzZut1gpHK
— Ultra Sawt ألترا صوت (@UltraSawt) May 16, 2025
وقالت وزارة الصحة في غزة إن 57 طفلًا توفوا بسبب آثار سوء التغذية منذ بدء الحصار على غزة ومنع دخول المساعدات الغذائية في الثاني من آذار/مارس الماضي. وسبق أن دقت منظمة الصحة العالمية ناقوس الخطر بتأكيدها أنها تملك إمدادات تكفي فقط لعلاج 500 طفل يعانون من سوء التغذية. كما أشارت دراسة أجرتها منظمة "Nutrition Cluster"، إلى أن ما بين 10 إلى 20% من النساء الحوامل والمرضعات من بين عينة شملت 4,500 امرأة، يعانين من سوء التغذية.
لقد نسينا شكل الحياة الطبيعي
في غرفة صغيرة مكتظة تعيش فتوح مع زوجها وثلاثة أطفال، بينهم الطفلة شام التي تقول والدتها إنها "تبكي طوال اليوم من الجوع والألم"، مشيرة إلى أنها لا تملك الأم سوى حفاضة واحدة يوميًا، فيما تعاني شام من عدة أمراض، تلخصها فتوح قائلة: "بشرتها ملتهبة، حمراء، ومصابة بالعدوى والطفح الجلدي"، وأضافت إنها "تصرخ عندما أحاول تنظيفها".
ومثل حال جميع السيدات الغزيات، تشرح فتوح طريقة إدارتها لتوزيع الطعام على أطفالها قائلة "في هذه الظروف، الأم لا تطعم فقط. إنها تقرر من يأكل ومن عليه أن ينام جائعًا. إنها تُقسّم الطعام وتضع نفسها في النهاية. أفعل ذلك كل يوم ودموعي في عيني، والخوف في قلبي".
كما روت في حديثها مشاهداتها عندما أسعفت طفلتها إلى المستشفى بعد إصابتها بالحمى، تقول فتوح: "ما رأيته هناك حطمني"، وتابعت حديثها مشيرةً إلى أن "الكثير من الأطفال والرضّع لم يكونوا سوى جلد على عظم، هياكل عظمية بالفعل، يعانون من الجوع"، وهو ما دفعها للخوف بأن ينتهي حال ابنتها مثل الأطفال المصابين بسوء التغذية.
تؤكد فتوح أنه من الواجب عليها كأم أن تحمي أطفالها، وهي من الواجبات التي يصعب عليها تطبيقها في ظل العدوان الإسرائيلي المتواصل. تقول "لا أستطيع حتى أن أقدّم لهم وجبة كاملة، أشعر بالعجز. كل يوم، أخاف أن أفقد طفلتي. كل ما أريده هو أن تبقى على قيد الحياة".
يواجه آلاف الأطفال في قطاع #غزة خطرًا حقيقيًا بالموت جوعًا نتيجة الحصار الإسرائيلي الكامل، الذي يمنع دخول الغذاء والدواء، بالإضافة إلى حليب الأطفال منذ الثاني من آذار/مارس الماضي.
◀️ تقرؤون التفاصيل في التقرير: https://t.co/a3EsiUSJwE pic.twitter.com/CEaY1lJ6du
— Ultra Sawt ألترا صوت (@UltraSawt) May 12, 2025
يُظهر حديث فتوح لـ"ذا صنداي تايمز" انهيار كامل مقومات الحياة في القطاع، إذ تتشارك عائلتها المنزل مع أشخاص لا تعرفهم، وأضافت في حديثها "لقد نسينا كيف تبدو الحياة الطبيعية، ما معنى أن يكون لك خصوصية، أن تغلق الباب خلفك"، مؤكدةً أنه "لا يوجد أي قدر من الخصوصية. أحاول أن أجد زاوية صغيرة لأرضع طفلتي".
وتعليقًا على ذلك، تقول "ذا صنداي تايمز" إن الإرضاع الطبيعي أصبح رفاهية للأمهات في غزة، اللواتي تأثرن بشدة جراء أزمة الغذاء المتفاقمة، مشيرة إلى أن فتوح حاولت استبدال الرضاعة الطبيعية بالحليب الصناعي، لكنها لم تستطع تحمّل تكلفته. وأضافت "أحاول أن أرضعها، لكن ليس لدي القوة أو التغذية الكافية لإنتاج ما يكفي من الحليب. كأم مرضعة، أحتاج إلى أشياء مثل الحليب، والبيض، والسكر. لكن كيلو السكر الواحد أصبح الآن بـ100 شيكل، وغالبًا لا نجد هذه المواد في السوق".
وتختم "ذا صنداي تايمز" تقريرها بالإشارة إلى أن عائلة فتوح، مثل جميع العائلات الغزية، تعتمد على مطابخ خيرية تُعرف محليًا بـ"التكية" للبقاء على قيد الحياة، والتي توفر الوجبات اليومية لأكثر من مليوني مدني في غزة، رغم أنها لا تستطيع تقديم غير مليون وجبة يوميًا، أغلبها من الأرز والمعكرونة، دون خضروات طازجة أو لحوم.