يرث كل من لبنان وسوريا تركة ثقيلة من نظام الأسد، بعد عقود من العلاقات القلقة والأزمات المتراكمة بين البلدين الجارَين، اختلط فيها الأمني بالسياسي والاقتصادي، وغياب الندية في العلاقات التي تركت ندوبًا كبيرة في تاريخهما الحديث.
حضرت هذه التركة بكل هواجسها، في لقاء رئيس الحكومة اللبنانية نواف سلام والرئيس السوري أحمد الشرع، في زيارة هي الأولى له إلى دمشق منذ توليه رئاسة مجلس الوزراء في شباط/فبراير 2025. ورافقه فيها وزراء الدفاع اللواء ميشال منسى، الداخلية العميد أحمد الحجار والخارجية يوسف رجي، بحضور وزير الخارجية السورية أسعد الشيباني.
شددت مصادر حكومية مشاركة في الزيارة عبر "الترا صوت" على أن "اللقاء بين الرجلين كان جيدًا وكل الأجواء بينهما كانت إيجابية"
المسؤولان القادمان حديثًا إلى الحكم، في ظل مرحلة حرجة تعيشها المنطقة وبلديهما، حاولا في هذا اللقاء ترتيب الملفات الشائكة والعالقة بينهما. وشددت مصادر حكومية مشاركة في الزيارة عبر "الترا صوت" على أن "اللقاء بين الرجلين كان جيدًا وكل الأجواء بينهما كانت إيجابية"، مشيرة إلى أنه "حُكي في كل الملفات المشتركة بين البلدين مع التركيز على تصحيح العلاقات واعتبار ما يجري الآن هو فرصة لتصحيح مسارها على قاعدة حسن الجوار واحترام البلدين لسيادة بعضهما البعض".
أمن الحدود
الملف الطارئ الذي يتصدّر الاهتمام هو أمن الحدود، بعد اشتباكات عند الحدود البقاعية في قرية حوش السيد علي، في أذار / مارس الماضي، والتي أدت إلى سقوط ضحايا من الجانبين.
فالحدود البرية بين لبنان وسوريا معقدة جدًا وممتدة على 375 كيلومترًا من التضاريس الصعبة، وتشكل مرتعًا لعمليات التهريب منذ عشرات السنوات بالاتجاهين، وكانت سببًا دائمًا للتوتر الحدودي كما لاستنزاف الاقتصاد اللبناني، لا سيما خلال الازمة الاقتصادية في لبنان بعد العام 2019.
وبعد لقاء وزيري الدفاع اللبناني والسوري في جدة، في 27 أذار / مارس، استُكملت الخطوات الرسمية بين البلدين في لقاء الشرع - سلام، حيث كشفت المصادر الحكومية عن تشكيل لجنة وزارية بين البلدين لمتابعة ملف ترسيم الحدود برًّا وبحرًا وضبط الوضع الأمني والمعابر، والعمل على إغلاق المعابر غير الشرعية ومنع التهريب.
ملف النازحين
وأما المسألة الأهم فتبقى قضية النازحين السوريين في لبنان، الذين فرّوا من الموت منذ عام 2011، ويُقدّر عددهم بأكثر من مليون نازح، وهم تحت رعاية المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين "UNHCR".
يشكل الملف موضع بحث دائم على الطاولة بين لبنان وسوريا، والذي تملّص منه النظام السوري السابق مرارًا من دون تقديم أي ضمانات لتوفير عودة آمنة لهؤلاء.
واتُفِق خلال قمة دمشق على تسهيل العودة الآمنة والكريمة للاجئين إلى أراضيهم ومنازلهم بمساعدة الأمم المتحدة، والدول الشقيقة والصديقة.
مرتكبو الاغتيالات
وفي خطوة لافتة، وبعد سنوات من إفلاتهم من المحاسبة، طالب الوفد اللبناني الجانب السوري بتسليم مطلوبين في قضايا اغتيالات وقعت في لبنان، أبرزها اغتيال كمال جنبلاط، الذي أشرف على عملية اغتياله اللواء إبراهيم حويجه، والموقوف من قبل الأمن العام السوري مطلع آذار/مارس الماضي.
كما شملت المطالب تسليم حبيب الشرتوني، المتهم بتنفيذ عملية اغتيال رئيس الجمهورية السابق بشير الجميّل، والذي لا يزال مختبئًا في سوريا. وطالب الوفد أيضًا بتسليم متورطين في تفجير مسجدي التقوى والسلام، وسلسلة تفجيرات وجرائم أخرى، كان آخرها جريمة قتل المسؤول في حزب القوات اللبنانية باسكال سليمان، وفرار قاتليه إلى الأراضي السورية.
ملف المفقودين والموقوفين
قضية إنسانية عمرها عقود حضرت في لقاء الشرع - سلام، وتتمثل بمئات الشبان اللبنانيين المفقودين في السجون السورية، وقد ظهر بعضهم في سجن صيدنايا على أثر سقوط النظام السوري. لكن الجرح ما زال ينزف مع بقاء مصير المعتقلين في السجون السورية مجهولًا حتى اللحظة.
وأشارت المصادر الحكومية إلى أن هذا الملف بُحث بتفاصيله وأن هناك لجنة سوف تتابعه حتى الوصول إلى خواتيمه.
في المقابل، بُحث في موضوع الموقوفين السوريين في السجون اللبنانية، الذي كان وصل إلى خواتيمه، لكن سقوط نظام الأسد أخّر الاجراءات التنفيذية إلى حين استتباب الأمور لدى الجانب السوري واستعادة الدولة الجديدة عافيتها.
وقد أنجزت وزارتا العدل والداخلية عبر اللجنة القضائية الأمنية معظم الملفات العائدة للسجناء السوريين، سواء المحكومين أو الموقوفين غير المحكومين، وأحصي تقريبًا عدد الذين يجب تسلميهم الى سوريا، وهو بحدود 568 سجينًا.
خط الترانزيت
تميّز لبنان منذ خمسينات وستينات القرن العشرين بكونه خط ترانزيت أساسي إلى الدول العربية عبر سوريا. هذا الخط يشكل أيضًا الشريان الأساسي لصادرات لبنان الصناعية والزراعية، والذي انقطع مرارًا إبان الحرب السورية منذ العام 2011 وكانت التداعيات كبيرة على المزارعين والصناعيين اللبنانيين، نظرًا للكلفة المرتفعة للتصدير والاستيراد عبر الجو أو البحر.
ولفتت المصادر الحكومية إلى أن "البحث بين الشرع وسلام تطرّق إلى كل الاتفاقيات الجديدة التي يمكن التشاور حولها لاحقًا ويستفيد منها البلدين اقتصاديًا في المجالات الزراعية والاستثمارية، كما تفعيل خطوط الطيران بين بيروت ودمشق والترانزيت والتجارة".
كما تم التطرق إلى البحث في الاتفاقيات السابقة بين البلدين والتي ينبغي إعادة النظر بها، ومن ضمنها المجلس الأعلى اللبناني السوري وﻣﻌﺎهﺪة اﻷﺧﻮة واﻟﺘﻌﺎون واﻟﺘﻨﺴﻴﻖ.
قانون قيصر
رغم التغيرات التي شهدتها سوريا بعد سقوط نظام الأسد، لا تزال دمشق تخضع لعقوبات قاسية، وعلى رأسها "قانون قيصر" الذي يترك أثرًا ثقيلًا على لبنان أيضًا، وخصوصًا من خلال ملف حيوي يتمثل في استجرار الغاز والنفط عبر الأراضي السورية.
وقد طُرح هذا الملف مجددًا خلال لقاء الشرع - سلام، وهو ملف يعود إلى العام 2021 حين تم الاتفاق على نقل الغاز المصري إلى لبنان عبر الأردن وسوريا لحل أزمة الكهرباء.
إلا أن المشروع لا يزال معلّقًا، بانتظار رفع القيود الاقتصادية والمالية المفروضة على سوريا بموجب قانون "قيصر" الأميركي.
مباحثات تأسيسية
لن تُنجَز الحلول بسحر ساحر، فتراكم 5 عقود لن يعالجه اجتماع رسمي يتيم، إنما يحتاج إلى ورشة عمل وجهد مضاعف من البلدين لإعادة تصويب العلاقات بشكلها الصحيح.
وبواقعية تلفت المصادر الحكومية إلى أن المباحثات بين الشرع وسلام يراد منها أن تكون تأسيسية، وأن اللجان المشكّلة ستعمل على البحث في كل القضايا، وان زيارات متبادلة ستحصل بين الوزراء والمسؤولين في البلدين لوضع النقاط على الحروف في شتّى المجالات.