قبل ثلاثة أيام تلقى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي اتصالًا هاتفيًا من نظيره الإيراني مسعود بزشكيان، تبادلا خلاله التهاني بمناسبة عيد الفطر المبارك، وأكدا سويًا على خفض التصعيد الإقليمي ومنع توسع رقعة الصراع في المنطقة، بما يضمن الاستقرار والأمان لكافة شعوبها، حسبما صرح المتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية المصرية، السفير محمد الشناوي، في بيان نشره على منصات التواصل الاجتماعي.
يأت هذا الاتصال بعد 100 يوم تقريبًا من زيارة بزشيكان للقاهرة في 19 كانون الأول/ ديسمبر 2024 للمشاركة في قمة الدول الثماني الاسلامية للتعاون الاقتصادي النامية التي احتضنتها العاصمة المصرية نهاية العام الماضي، وهي الزيارة التي تعد الأولى من نوعها لرئيس إيراني لمصر منذ نحو 11 عامًا، عندما زار الرئيس السابق أحمدي نجاد مصر في شباط/ فبراير 2013.
انطلق قطار التطبيع بين البلدين بسرعة متزايدة نسبيًا عما كان عليه سابقًا منذ أن وجه الرئيس الإيراني الراحل إبراهيم رئيسي، في أيار/مايو 2023، وزارة الخارجية باتخاذ ما أسماه "الإجراءات اللازمة" لتعزيز العلاقات مع مصر
ثمة إرهاصات تقارب في العلاقات بين القاهرة وطهران بعد عقود طويلة من الجفاء والجمود، منذ قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين عام 1980 بسبب الثورة الإسلامية، والتي استؤنفت من جديد بعد 11 عامًا لكن في حدودها الضيقة، على مستوى القائم بالأعمال ومكاتب المصالح.
وانطلق قطار التطبيع بين البلدين بسرعة متزايدة نسبيًا عما كان عليه سابقًا منذ أن وجه الرئيس الإيراني الراحل إبراهيم رئيسي، في أيار/مايو 2023، وزارة الخارجية باتخاذ ما أسماه "الإجراءات اللازمة" لتعزيز العلاقات مع مصر، وفق ما نقلت وكالة "تسنيم" الإيرانية للأنباء وقتها.
وتُعد العلاقات المصرية الإيرانية من النماذج الاستثنائية في العلاقات الدولية التي تعزف على وتر " اللا قطيعة واللا تقارب"، حيث تتبنى الجمود المرن منهجًا في معظم محطاتها التاريخية، رغم دوافع التقارب الملحة، وغياب مسببات التوتر المستمر، فيما دخل على خارطة تلك العلاقات خلال العقدين الأخيرين تحديدًا عدد من اللاعبين المؤثرين، ممن كان لهم دورًا محوريًا في رسم ملامح تلك الخريطة وتحديد بوصلتها.. فهل آن الأوان للقاهرة لإعادة النظر في مستقبل سياستها إزاء طهران، استنادًا إلى المقاربات والمحددات المصرية الخالصة بعيدًا عن أي اعتبارات أخرى؟
استجابة مُلحة للتحديات.. محاولة لفهم السياق
تشهد المنظومتان، الإقليمية والدولية، خلال الآونة الأخيرة، حالة سيولة سياسية وأمنية واقتصادية غير مسبوقة، ما بين مساعي واشنطن تحت قيادة الجمهوريين، خاصة اليمين المتطرف منهم، لترسيخ نظام القطب الأوحد، وإعادة رسم المشهد على المقاس الأميركي، وما يتعرض له الشرق الأوسط من هزة عنيفة، جراء الاضطراب الذي شهدته معادلات التوازن والقوى، أربكت كافة الحسابات.
هذا الاضطراب وتلك السيولة فرضت حزم من التحديات والتهديدات التي دفعت الجميع إلى إعادة تموضع للحفاظ على موطئ قدم في هذا المشهد المٌرتبك والمتغير على مدار الساعة، وأجبرت كل القوى، بلا استثناء، على تقييم الساحة مجددًا، واتخاذ خطوة، بل خطوات، للخلف، خشية الانزلاق في مستنقع التهميش في حال التشبث بالثوابت والمرتكزات التقليدية.
ونظرًا للثقل الإقليمي لكل من مصر وإيران، وانخراطهما، قهرًا لا خيارًا، في المشهد بصورة مكثفة، في ظل تشابك القضايا والملفات التي تتقاطع معهما أمنيًا وسياسيًا واقتصاديًا، كانتا من أبرز القوى التي أجبرت على إعادة تقييم السياسات العامة ومنظومة توجهاتهما الإقليمية، والتي على رأسها مستوى وحجم العلاقات البينية، لتبدأ محطة جديدة من التقارب وكسر الجمود الذي خيم عليها لعقود طويلة.
مؤشرات التقارب
حراك لا تخطئه عين تشهده العلاقات المصرية الإيرانية خلال الأعوام الأربعة الأخيرة، حيث العديد من مؤشرات التقارب الأقرب نسبيًا للتطبيع وإن لم يكن في صورته المكتملة، متمثلًا في بعض الشواهد أبرزها:
-لقاء السيسي بوزير الخارجية الإيراني على هامش مؤتمر دولي عقد في بغداد آب/ أغسطس 2021.
-مشاركة الرئيس المصري في قمة بغداد التي عقدت في حزيران/ يونيو 2022 حيث شهدت عقد اجتماع أمني بين مسؤولين مصريين وإيرانيين على هامش الزيارة، تبعها لقاء آخر جمع بين مدير المخابرات المصرية، آنذاك، عباس كامل ووزير الخارجية المصري، وقتها، سامح شكري مع نائب الرئيس الإيراني على سلاجقة في تشرين الثاني/ نوفمبر من نفس العام على هامش المشاركة في قمة المناخ "COP27" التي عقدت بشرم الشيخ.
- رحب وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، في كانون الأول/ ديسمبر من 2022 وخلال اجتماعه مع رئيس الوزراء العراقي على هامش مؤتمر "بغداد 2" في العاصمة الأردنية، بمقترح لبدء حوار مع مصر بوساطة عراقية عُمانية لتحسين العلاقات معها.
- كشف سفير إيران لدى بغداد محمد كاظم الصادق، في تصريحات له أيار/مايو 2023 أن هناك جهودًا دبلوماسية تبذلها العراق وسلطنة عمان للتقارب بين القاهرة وطهران، متحدثًا عن قنوات اتصال عدة تم فتحها لتطبيع العلاقات، وأن الأمور تسير في سياقها الإيجابي في ظل رغبة البلدين في التقارب.
- لقاء جمع الرئيسين المصري والإيراني على هامش قمة دول "البريكس" بمدينة قازان في روسيا الاتحادية، تشرين الأول/أكتوبر 2024.
-زيارة وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي للقاهرة في تشرين الأول/ أكتوبر2024، وهي الزيارة الأولى لوزير خارجية إيراني منذ عام 2013.
- زيارة الرئيس الإيراني للقاهرة في 19 كانون الأول/ ديسمبر 2024 للمشاركة في قمة الدول الثماني الاسلامية للتعاون الاقتصادي النامية التي احتضنتها العاصمة المصرية نهاية العام الماضي.
مقاربات القاهرة.. ضبط على البوصلة الأميركية الخليجية
تنطلق القاهرة في علاقاتها إزاء طهران من خلال 3 مقاربات أساسية كانت السبب الرئيسي في سقوط تلك العلاقات في فخ التوتير لسنوات طويلة:
أولًا: العلاقات مع دول الخليج
حاول النظام الحالي في مصر منذ تسلمه السلطة في عام 2014 تعزيز تقاربه مع عواصم الخليج، خاصة السعودية والإمارات، كرد فعل على الدعم الخليجي المقدم لترسيخ أركانه بعد الإطاحة بالنظام السابق، حيث رفع شعار "أمن الخليج خط أحمر"، وهو الشعار الذي فرض على القاهرة التزامات مشددة كان من بينها استعداء طهران، أو على الأقل غلق الباب أمام أي تقارب معها.
ورغم الأصوات التي كانت تطالب القاهرة بإعادة النظر في تلك السياسة انطلاقًا من مصلحة مصر العليا والتي يجب أن تسبق أي موائمات أو مقاربات من هذا الشكل، إلا أن النظام أصر على المضي قدمًا في هذا المسار، حفاظًا على العلاقات مع الخليج والتي كانت مقدمة على أي علاقات إقليمية أخرى، وهو ما أثر سلبًا على الأمن القومي المصري بعد ذلك.
ثانيًا: الولايات المتحدة
تدرك القاهرة جيدًا طبيعة العداء بين واشنطن وطهران، لذا كان تجنب إغضاب الحليف الأميركي عبر التقارب مع إيران خطًا أحمر في السياسة الخارجية المصرية، مع الأخذ في الاعتبار التوجهات الأميركية الساعية إلى قطع الطريق أمام أي تطبيع محتمل بين البلدين، المصري والإيراني، وذلك من خلال بث أدوات التفرقة وإثارة الفتن والاضطرابات التي تعرقل أي تحسن مستقبلي في مسار تلك العلاقات.
ثالثًا: الأمن القومي المصري
دومًا ما تتوجس القاهرة خيفة وريبة من توجهات إيران في المنطقة، حيث تتصاعد المخاوف من تدخلها في الشؤون الداخلية لمصر، إما عن طريق أذرعها في المنطقة أو الدول والكيانات التي تدعمها، فضلًا عن علاقاتها القوية بجماعات الإسلام السياسي التي تناصبها القاهرة العداء والخصومة.
ومنذ الربيع العربي الذي حل بالمنطقة في 2011 يُنظر إلى طهران على أنها لاعب أساسي في تشكيل خريطة المنطقة الإقليمية، تعمقت تلك النظرة أكبر بعد تسلم النظام الحالي في مصر السلطة، حيث كان يعتبر إيران خصمًا يهدد أمن البلاد القومي بسبب علاقاتها مع حماس على وجه الخصوص، التي كانت تعتبرها السلطات المصرية "عدوًا محتملًا"، قبل أن تتحسن العلاقات بعد ذلك نتيجة المستجدات والظروف المتلاحقة.
طرق لأبواب التقارب.. ما الذي تغير؟
لم تأت مؤشرات التقارب التي شهدتها العلاقات المصرية الإيرانية مؤخرًا من فراغ، بل انطلقت في الأساس من 4 محددات رئيسية:
أولًا: التحديات الإقليمية والدولية
فرض المستجدات التي شهدتها الساحة الإقليمية والدولية خلال الأعوام القليلة الماضية تحديات جسام، تأرجحت بين الاقتصادي والسياسي والأمني، دفعت، كما ذكرنا سالفًا، كل دولة إلى إعادة تقييم المشهد وفق رؤية مغايرة، تتخلى فيها عن بعض الثوابت والمواقف، خاصة تلك التي توسع الهوة بين القوى الإقليمية المؤثرة على الساحة.
وتجمع البيئة الإيرانية والمصرية العديد من القواسم المشتركة الدافعة بقوة نحو تخفيف حدة التوتر بينهما، على رأسها الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعاني منها الدولتان، فضلًا عن التهميش المستهدف لقوة ونفوذ كل منهما لصالح قوى أخرى ناشئة، وهو ما يدفعهما نحو إسراع الخطى للتقارب وتقليص الفجوة بين البلدين.
ثانيًا: التقارب السعودي الإيراني
كان عداء الرياض مع طهران أحد أضلاع مثلث الخصومة المصرية الإيرانية، ومع عودة العلاقات الدبلوماسية السعودية مع إيران في أذار/مارس 2023 وطي صفحة الخلافات الممتدة لعشرات السنين، وما تبع ذلك من تقارب خليجي إيراني على أكثر من مسار، ما عاد هناك من مبرر لدى القاهرة للإبقاء على التوتر مع الجانب الإيراني.
كما أن إقدام السعودية على تلك الخطوة بشكل منفرد دون استشارة حلفائها في المنطقة، كان أحد المسائل التي أثارت حفيظة القاهرة، وهو ما قلل نسبيًا من تحسس المصريين مشاعر ومواقف حلفائهم الخليجيين، الإحساس ذاته استشعر به الجانب المصري إزاء التقارب السعودي التركي.
وبشكل برغماتي ارتأت مصر أن تتحرك بما يخدم مصالحها العليا دون أي اعتبارات أخرى، حيث أعادت النظر في علاقاتها مع الدول التي تعاني علاقاتها معها من توترات، منتهجة سياسة تصفير الأزمات هي الأخرى كغيرها من عواصم المنطقة، فبدأت مرحلة جديدة من التقارب مع الدوحة وأنقرة، وها هي اليوم تطرق أبواب الانفتاح على طهران.
ثالثًا: انتفاء المخاوف الأمنية
تقليم أظافر طهران في المنطقة من جانب، وتراجع ثقل جماعات الإسلام السياسي المدعومة إيرانيًا من جانب أخر، ثم تقارب وجهات النظر بين القاهرة وبعض تلك الجماعات، من جانب ثالث، كان له تأثيره القوي في تراجع المخاوف الأمنية المصرية في النظرة العامة إزاء العلاقات مع إيران
ومنذ بداية الحرب الحالية على عزة تراجعت التخوفات الأمنية المصرية في تعاطيها مع الجانب الإيراني بصورة كبيرة، مقارنة بما كان عليه الوضع قبل ذلك، ساعد على ذلك خطاب المغازلة الذي بدأ الإعلام الإيراني، والعربي المدعوم إيرانيًا، في تبنيه مع القاهرة ونظامها الحاكم، الأمر الذي خفف كثيرًا من حدة التوتر وأعاد الدبلوماسية على طاولة النقاش كأحد الحلول المطروحة في رسم مستقبل العلاقات بين البلدين.
رابعًا: توجهات الإدارة الأميركية الجديدة
لعبت توجهات الإدارة الأميركية الجديدة في عهد دونالد ترامب دورًا محوريًا في تفاقم التحديات التي يواجهها الشرق الأوسط بمختلف قواه النافذة والمؤثرة، من خلال توسيع النفوذ الأميركي والدفع نحو تعزيز الهيمنة الإسرائيلية، بما يرسخ تفوقها المطلق على جميع قوى المنطقة سياسيًا وعسكريًا.
كما أثارت مساعي واشنطن رسم المنطقة مجددًا وفق بوصلتها الخاصة وعلى المقاس الإسرائيلي مخاوف القاهرة وطهران على وجه التحديد، إذ استشعرا تقزيم دورهما وتقليص حضورهما لصالح قوى أخرى، وهو ما دفعهما إلى إعادة النظر في الكثير من المواقف ومحددات سياستهما الخارجية، والتي على رأسها طبيعة وحجم ومنسوب العلاقات بينهما.
تحديات رغم الدوافع
تتحرك إيران ومصر نحو التقارب مدفوعتان بحزمة من المحفزات التي تتنوع بين السياسي والاقتصادي والأمني، في ظل حاجة كل طرف للأخر في مواجهة التحديات التي تتعاظم يومًا تلو الأخر، ونشوء تكتلات وتحالفات جديدة تسحب البساط من تحت أقدامهما كقوى مؤثرة ولاعبة في المشهد الإقليمي والدولي.
ثمة مكاسب يقصد كل طرف تحقيقها حال تطبيع العلاقات، غير أن هذا التوجه مهدد بقائمة من العراقيل التي قد تعيق مسار التطبيع بينهما وتبقيه في سياقه الجاف المعتاد طيلة السنوات الماضية، على رأسها فقدان ثقة مصر في السياسة الإيرانية التي تهدد الأمن القومي المصري بطبيعة الحال.
فرض المستجدات التي شهدتها الساحة الإقليمية والدولية خلال الأعوام القليلة الماضية تحديات جسام، تأرجحت بين الاقتصادي والسياسي والأمني، دفعت، كما ذكرنا سالفًا، كل دولة إلى إعادة تقييم المشهد وفق رؤية مغايرة
وبحكم أن التقارب بين البلدين نابعًا في الأساس من منطق برغماتي بحت وليس ايديولوجيًا، فإن قدرته على الصمود والاستمرار مشروط بتصرفات كل دولة وتقييمها بين الحين والأخر، فإذا ما كان وفق البوصلة المحددة بقي في مساره المرسوم وإلا سيكون الانقلاب مع أول تغريد خارج السرب، وهو ما يضع مستقبل التطبيع على المحك ورهينة للظروف والمستجدات.
ثم السؤال الأهم والأكثر حرجًا: هل تضحي القاهرة، تحت أي ظرف، بعلاقتها بواشنطن والمعسكر الغربي ومن قبلهما العلاقات مع السعودية والخليج من أجل الإيرانيين؟ بالطبع الإجابة معروفة للجميع، إذ أنه من المستبعد، وربما من المستحيل، أن تفكر مصر في استثارة غضب منظومة تحالفاتها الاستراتيجية.
وعليه ليس أمام المصريين سوى تحقيق التوازن من خلال مسك العصى من المنتصف، التقارب مع طهران وفي ذات الوقت الحفاظ على قوة العلاقات مع المعسكر الغربي والخليج، ليبقى السؤال: هل تملك القاهرة في الوقت الحاليّ الأدوات الدبلوماسية الكافية لتحقيق هذا التوازن بما يحقق لها مصالحها من جانب، ويقلل مخاوفها ولا يغضب حلفاءها من جانب آخر؟