كثيرًا ما تثير الدعوات الخارجية والداخلية إلى حماية الأقليات في سوريا حفيظة طيف واسع من السوريين، ويبرر هؤلاء اعتراضهم، بأن الأقليات العرقية والدينية تتلقى الاهتمام الخارجي بينما الأكثرية السنية، لم تحظَ بهذا الاهتمام عندما تعرضت مناطق الأكثرية للقصف والدمار والتهجير والاعتقالات خلال سنوات الثورة السورية، وما تبعها من حرب طاحنة. فيما يعتبر آخرون أن التأكيد على حماية الأقليات، ما هو إلا توظيف سياسي يهدف إلى شرعنة التدخلات السياسية، وسط وجود أطراف إقليمية ودولية تريد استغلال هذا الملف لتجد لها موطئ قدم في سوريا الجديدة، أو تريد إشاعة الفوضى وإفشال التجربة السياسية الوليدة مثل إيران وروسيا وغيرها.
وتعود فكرة حماية الأقليات في منطقتنا إلى منتصف القرن التاسع عشر خلال فترات ضعف الإمبراطورية العثمانية، وكان الاهتمام الأول للأوروبيين يتمثّل في "حماية" الطوائف غير المسلمة في الشرق، حماية الكاثوليك بالنسبة إلى الفرنسيين، وحماية الأرثوذوكس بالنسبة إلى الروس. وما زالت محاولات التدخل بهدف حماية الأقليات.
لكن ما ذكر سابقًا، لا يعفِي من واجب التساؤل، ما إذا كانت الأقليات تحتاج فعلًا إلى حماية وتطمينات من نوع ما؟ إن الإجابة على هذا السؤال والتعامل معه بجدية تُمثل أحد المفاتيح المهمة لاستقرار البلاد في المستقبل، لأن مسألة الأقليات في سوريا، ذات التنوع العرقي والطائفي والطبقي، تمثل عاملًا مؤثرًا على تشكيل النظام السياسي وطبيعة الدولة.
على سبيل المثال تشير العديد من المعطيات إلى أن القلق التركي من تزايد قوة الأقلية الكردية في سوريا كانت دافعًا رئيسيًا وراء انخراط أنقرة في الشأن السوري، وصولًا إلى دعم هيئة تحرير الشام، الذي أدى في النهاية، وبمساعدة عوامل أخرى، إلى إسقاط النظام السوري، الذي اعتمد هو الآخر على استغلال مظلومية الطائفة العلوية، وارتكز على دعمها لمحاربة "الأعداء الداخليين"، وهذا ما خلق نوع من المظلومية السنية، لكن هذه المظلومية ليست وليدة الثورة السورية، فقد كان يتم الحديث عنها في الأوساط السُنية، منذ أن بدأ نظام الأسد الأب في عام 1970 مشروعه في "عَلوَنة" الدولة والسيطرة على المفاصل الأساسية فيها.
تعود فكرة حماية الأقليات في منطقتنا إلى منتصف القرن التاسع عشر، خلال فترات ضعف الإمبراطورية العثمانية
بالمقابل فإن الشعور بالظلم لدى الأقليات السورية قد تراكم على مدى سنوات طويلة. علمًا أن هناك فرقًا بين التعرض الحقيقي للاضطهاد وبين الإحساس بالاضطهاد، أحيانًا قد تكون القلة العددية وحدها كافية لتنمية شعور بالتهديد الدائم وانعدام الثقة بالمحيط المختلف، وليس من الحكمة اليوم أن نتجاهل التاريخ الذي يؤكد وقوع الكثير من حالات الاضطهاد الاجتماعي والطبقي والديني والقومي بين أبناء الطوائف والتجمعات المختلفة، وهذا ما يفسر حقيقة أن أغلب الأقليات السورية، وخاصة المسلمة منها، تتركز في المناطق الجبلية الوعرة لما يوفر ذلك من حماية طبيعية، بعكس الحياة في المدن أو المناطق السهلية المكشوفة.
هذا الإحساس بالمظلومية لدى الطوائف والأقليات الدينية والعرقية، يحمل أيضًا بعدًا وظيفيًا يتمثل بالحفاظ على التماسك بين مكونات الطائفة الواحدة، والمساهمة أيضًا في استمرار وجودها، وخلق نوع من وحدة المصير بين أبنائها، ويتزايد هذا الشعور بشكل عكسي مع تناقص إحساس المواطنة والمساواة.
تكمن خطورة الحالة السورية اليوم في أن أغلب الطوائف تشعر بأنها ظلمت، إن كان في التاريخ الحديث أو عبر موروث عززته آليات دفاعية للحفاظ على التماسك والاستمرارية. وبالمحصلة فإن الشعور بالمظلومية أصبح وكأنه العامل الرئيسي المشترك بين جميع مكونات الشعب بغض النظر عن الأقلية والأكثرية والفترة الزمنية التي وقعت فيها هذه المظلوميات.
هذا الشعور العام لدى المكونات السورية، يجعل أبناء الطوائف المختلفة، يقعون ضحية آلية نفسية معروفة باسم "التحيّز التوكيدي"، والتي تتمثل في رؤية وتفضيل الأدلة التي تؤكد صحة اعتقاد أصحابها وعدم القدرة على إدراك المعلومات التي لا تتوافق معها، فمثلًا لا يرون أو لا يريدون أن يروا عشرات الآلاف من المعارضين وآلاف المعتقلين وعشرات الشهداء تحت التعذيب من أبناء الأقليات، بالمقابل فإن العديد من أبناء الأقليات قد تبنوا وجهة نظر النظام السوري البائد، حول سردية شيطنة الثورة وأجندة التخويف من الإسلاميين.
مع سقوط النظام، أبدت جميع الأقليات رغبتها في التعاون مع الإدارة السورية الجديدة، التي بثت بدورها تطمينات إلى الحرص على التعايش المشترك واحترام التنوع، وركز بيان صادر عن الطائفة العلوية على أن النظام السابق: "لم يكن أبدًا نظام (الطائفة العلوية)، إنما كان نظامًا يضم بين أركانه من كل مكونات الشعب السوري، و قد وزع ظلمه و بطشه على الجميع، و قد عانت الطائفة العلوية منه أكثر من غيرها إقصاءً و ظلمًا و إفقارًا، و نحن كملتقى يمثل عموم هذه الطائفة نبرأ من إجرام هذا النظام بحق كل مكونات الشعب السوري".
على الرغم من ذلك، فإن بعض الممارسات على الأرض أدت إلى إثارة المخاوف لدى الأقليات، مثل إحراق شجرة عيد الميلاد في ساحة مدينة السقيلبية، ذات الأغلبية المسيحية في ريف حماة.. وغيرها.
بعض هذه التصرفات جاء نتيجة طبيعية للفوضى، لكن بعضها جاء نتيجة قرارات سياسية، ففي الحالة العلوية لم تراع الإدارة الجديدة خطورة الأوضاع عند الاحتكاك بين مقاتلي الفصائل والأهالي، حينما أرسلت عناصرها إلى القرى العلوية بهدف جلب المطلوبين، الأمر الذي أدى إلى حدوث العديد من التجاوزات والأعمال الانتقامية، التي كان من الممكن تجاوزها من خلال إشراك أبناء المنطقة أنفسهم في تنفيذ الاعتقالات.
وتبدو الأوضاع أكثر قتامة بما يخص خلافات الإدارة الذاتية الكردية والإدارة الجديدة في دمشق، وذلك بسبب تعدد الأطراف الفاعلة كالولايات المتحدة وتركيا وروسيا وإيران والنزعة القومية الكردية الواضحة.
ولا يبدو أن مخاوف الأقليات بمختلف تنوعاتها، تأتي من كون الإدارة الحالية تمثل طائفة الأكثرية، لكنها تتولد بشكل أساسي من طبيعة الإدارة الجديدة، التي تملك سجلًا حافلًا بالعنف والأفكار الجهادية المتطرفة، والتي لا يمكن نسيانها أو تجاهلها بسهولة، وينطبق ذلك حتى على أبناء الطائفة السنية، وخاصة في المدن الكبرى وبعض الأرياف القريبة منها، والذين يجدون أنفسهم أمام نوع مختلف من الممارسات الدينية والإجتماعية عن تلك التي تعودوا عليها لسنوات.
لكن على الرغم مما سبق، يمثل سقوط النظام السوري تغييرًا كبيرًا على المستوى السياسي والاجتماعي السوري، ويشكل فرصة نادرة لحل مشكلة الأقلية والأكثرية وكسر حلقة المظلوميات المتراكمة، وقطع الطريق على التدخلات الخارجية بحجة حماية الأقليات، عبر جملة من الممارسات و التطمينات المتبادلة، أي أن هذه التطمينات لا تقتصر على الأكثرية وحدها، وإنما على الأقليات أيضًا، من خلال التواصل مع الإدارة الجديدة والتنسيق معها في إدارة مناطقهم.
بحسب نظرية جوردون ويلارد، وهو عالم نفس أمريكي، يساهم التواصل والاحتكاك الفعّال بين مختلف الجماعات، العرقية والقومية والدينية، في تخفيف حدة القوالب النمطية والاعتقادات الخاطئة ويساعد على تغييرها، ويزيد التقارب والتفاعل من المشاعر الإيجابية، ويقللان بوضوح من مقدار الكراهية والنفور والتمييز بينها، بشرط أن يكون الاتصال وثيقًا، وليس شكليًا أو يقتصر على التواجد في حيز مكاني واحد، بل يجب أن يدخل فيه أفراد الجماعات المختلفة في تفاعل اجتماعي وثيق.
كما يجب أن يتصف هذا الاتصال بالتعاون المتبادل، أي العمل معًا من أجل تحقيق أهداف مشتركة، بحيث تكمل جهودهم بعضهم البعض في المساهمة لتحقيق هذه الأهداف. وأخيرًا يجب أن يكون الاتصال بين أشخاص ذوي مكانة اجتماعية متساوية، وإلا فقد تنشأ مشاعر سلبية إذا ما كانت المكانة التقليدية بين الأشخاص غير متوازنة.
للتعليم دور فعّال في تكوين وعي جمعي رافض للتمييز الديني والعرقي، من خلال الابتعاد عن تلقين الشعارات والأيديولوجيات الجاهزة
يلعب التعليم دورًا مهمًا وفعالًا في تكوين وعي جمعي رافض للتمييز الديني والعرقي، من خلال الابتعاد عن تلقين الشعارات والأيديولوجيات الجاهزة، واستبعاد الأفكار الإقصائية المتطرفة من المناهج الدراسية بما يحترم عقول الطلاب ومراحلهم العمرية، واستخدام المناهج التعليمية للتعريف بالآخر وبتاريخه ومعتقداته التي يؤمن بها حقيقة، ونفي ما يتم تداوله من شائعات ومعلومات مغلوطة.
إن إعلاء الانتماء الوطني والمساواة في الحقوق والواجبات واحترام كرامة الإنسان ومعتقداته.. هو الحل النهائي للمشكلة الطائفية في سوريا، من أجل الوصول لهذه النتائج المرغوبة، يمكن للشخصيات العابرة للطوائف والانتماءات من سياسيين وخبراء وعلماء وفنانين وكتاب وغيرهم، لعب دور محوري وأساسي في صياغة ملامح مشرقة للمرحلة القادمة في سوريا، لذلك فإن نية السلطات الحالية والمستقبلية في سوريا قد تبدو أكثر وضوحًا وفعالية، عند سماحها لتلك الشخصيات بالمشاركة السياسية والظهور في الفضاء العام.
بالمحصلة فإن النظر إلى المكونات الأقلوية في سوريا ككيانات منفصلة عن الأكثرية تحتاج إلى حماية خارجية وضمانات، ليس هو الشعور المفضل بالنسبة لأبناء الأقليات، لأنه يبتعد بهم عن الحالة المثالية القائمة على المشاركة الفعالة في مختلف مجالات الحياة، ويجرف بهم إلى الغربة داخل الوطن، ويجعلهم ضحية للتنميط والتعميم والأحكام المسبقة والاتهامات بالخيانة والعمالة. أما الشيء المطلوب على المدى الطويل هو حماية الإنسان السوري كمواطن بغض النظر عن انتمائه وتوجهه الفكري.