النيل: شريان الحياة الذي خلَّده المصريون في أشعارهم وأفلامهم
10 سبتمبر 2025
ما أن تغادر السودان وتولّي وجهك شطر البحر المتوسط فإنك تخوض غمار منطقة صحراوية قاحلة يكاد ينعدم المطر فيها.. ما يُرشحها بامتياز لتكون أجدب منطقة على وجه الأرض، لولا أمر واحد.. نهر النيل.
في قلب الصحراء شقَّ النيل مسارًا هائل الطول ليقسمها إلى نصفين ويمنح الأمل للنازحين إليها في العيش والحياة. كما هو معلوم هرب المصريون القدماء في العصور الغابرة من قساوة الصحراء إلى ترحاب النيل والوادي الأخضر الذي بزغ على جانبيه، فزرعوا وأكلوا وشربوا وأقاموا واحدة من أقدم حضارات العالم.
بفضل هذا الدور الأسطوري مثّل النيل قيمة كُبرى في حياة المصريين، لم يعتبروه مجرد مصدر للشُرب والعيش بل منبعًا للحياة بأسرها وسببًا حاسمًا لقيام دولتهم ومُنطلقًا لتشكيل هويتهم القومية والثقافية.
هذا الارتباط المستحكم نكاد لا نجده في أي دولة أخرى بما فيها باقي الدول المشاطئة للنيل بحُكم امتلاك بعضها أنهار وبحيرات عذبة أُخرى بخلاف مصر التي تعتمد على النيل في تزويدها بـ 97% من احتياجاتها المائية، وهو الأمر الذي يجعل وجودها - حرفيًّا وليس من باب المبالغة الأدبية - مرتبطًا بوجوده.
المرجعية النيلية للدولة
باعتباره المصدر الأساسي للحياة على أرضهم، منح المصريون القدماء مكانة استثنائية للنيل لم تقتصر على التبجيل والاحتفاء به بل وصلت إلى حدِّ إقامة دولتهم ومجتمعهم على "أُسس نيلية" صِرفة.
ففي مجتمع زراعي كمصر القديمة أصبح أهم حدث في الحياة هو فيضان النيل الذي يعتمد عليه ازدهار البلاد بأكملها، وبهذا امتلك المصريون قناعة مترسخة ربطوا فيها الفيضان بالخير والنماء بدلًا من حضاراتٍ شرقية أخرى قديمة ربطت الفيضان بالموت والغرق والدمار.
مثّل النيل قيمة كُبرى في حياة المصريين، لم يعتبروه مجرد مصدر للشُرب والعيش بل منبعًا للحياة بأسرها وسببًا حاسمًا لقيام دولتهم ومُنطلقًا لتشكيل هويتهم القومية والثقافية
اهتم المصري القديم بمعرفة مواعيد الفيضان؛ تطلّع إلى السماء ونظر للنجوم وقسّم السنة طِبقًا لدورة فيضان النيل الذي أصبح قدومه يمثّل بداية العام.
لاحظ المصري القديم أن بشائر الفيضان تأتي مع ظهور نجم الشعرى اليمانية (أطلقوا عليها لقب "سوبدت") في السماء، وعندما حسب بين كل ظهور وآخر لهذا النجم وجدها 365 يومًا - عدد أيام السنة - فقسّمها إلى 12 شهرًا في كل شهر 30 يومًا، ثم أضاف لها خمسة أيام هي الأعياد.
ذلك التقويم منحته أميرة عصام الباحثة في التاريخ مصطلح "السنة النيلية" لأنها وُضعت خصيصًا بالتوافق مع دورة فيضان النيل، فجعلوا بدايتها هو ظهور نجم الشعرى اليمانية الذي منحه المصريون بعض التقديس وأطلقوا عليه اسم "جالب الفيضان".
ببساطة تألف هذا التقويم من 4 أقمار (شهور) تغمر فيها المياه الأرض ولا يُمكن العمل خلالها في الزراعة. بل يُمكن الاستعاضة عن ذلك بإصلاح الأدوات والسدود والمحاريث، ثم تنحسر المياه بعدها مما يتيح بذر البذور وزراعة الأرض طيلة 4 شهور ثم الانتظار 4 أقمار أخرى حتى ينضج المحصول ويُحصَد قبل عودة الفيضان مرة أخرى.
بفعل تراكم مثل هذه الممارسات برع المصريون في استخدام التقويم الشمسي بخلاف غيرهم من الشعوب المعاصرة التي استخدمت التقويم القمري ولم تعرف غيره.
ومثلما تعلّم المصريون الحساب والفَلك حتى يستطيعوا التنبؤ بمجيء الفيضان أتقنوا الهندسة لترويضه ولتقليل المشاكل التي قد تنجم عنه، فقسّموا الأراضي وشقوا القنوات وبنوا السدود.
كذلك فرض عليهم النيل بناء السفن وإتقان صُنعها بسبب رغبتهم في ارتياد مائه والقيام برحلات طويلة جنوبًا. ولقد ظلَّ السير جنوبًا لتتبّع أسرار النيل والوصول إلى منابعه حلمًا مصريًّا قديمًا. فبدأ الملوك في إرسال بعثاتٍ حربية وتجارية لاستكشاف المناطق الجنوبية الحدودية وصلت إلى بلاد كوش وبلاد بونت وهي مساعٍ ظلّت مستمرة حتى عهد الخديوِ إسماعيل الذي اتسعت في عهده حدود مصر حتى جاورت إثيوبيا وكادت أن تُخضعها للتاج المصري.
ربما يرجع ذلك إلى اعتقاد المصريين أن الفيضان أينما ذهب هو امتداد لحدود دولتهم وهو ما نلمسه من نقشٍ قديم على جدار أحد المعابد يقول: "كل بلاد يغمرها النيل في فيضانه هي من مصر".
هذا "الطموح النيلي" لعب دورًا كبيرًا في رغبة ملوك مصر في تكوين جيش قوي قادر على حماية البلاد وتحقيق حُلم الوصول إلى المنابع، وهكذا كان النيل دافعًا رئيسيًّا لظهور دولة مصرية ذات مؤسسات بيروقراطية قادرة على فرض سيادتها وتحقيق طموحات شعبها.
ظلَّ السير جنوبًا لتتبّع أسرار النيل والوصول إلى منابعه حلمًا مصريًّا قديمًا
تقول دكتورة عفاف الإتربي في بحث "النيل والمصريون": "هكذا ارتقت الحياة في وادِ النيل بعدما أنشأوا شبكة من الجسور لخدمة آلاف الفلاحين ووضعوا تقويمًا دقيقًا لتسهيل الزراعة، استدعى ذلك التطور إقامة جهاز أمن داخلي (شُرطة) ثم جهاز عَسكرية لحماية البلاد من أعداء الخارج، وبهذا تكونت أقدم حكومة مركزية في التاريخ".
بعد قيام تلك الحكومة لم يجد المصريون القدماء صعوبة في اختيار اسم دولتهم الذي أُلزم ألا يبتعد كثيرًا عن المرجعية النيلية العُليا للدولة ككل؛ اللقب الأشهر "كميت" وهو إشارة إلى لون التربة الأسود بسبب الطمي الذي يكسو به الفيضان الأراضي كل عام، بجانب أسماء أخرى أقل شيوعًا مثل "إيدبوي" (idbwy) ويعني أرض الضفتين، و"بيمري" (B-mri) أي أرض النيل.
النيل الأسطوري
بطبيعة الحال انعكست المكانة العُظمى للنيل في حياة المصريين على ثقافتهم وفلسفتهم وأساطيرهم؛ فلقد ربطوا بين النجمة سوبدت (الشعرى اليمانية) والإلهة إيزيس فتخيلوا أن الدموع التي تسكبها الأخيرة عند الذكرى السنوية لموت زوجها أوزوريس هي التي تأتي بالفيضان، وهو المعتقد الذي تسرّب للفلاحين المصريين في العصر الحديث بعدما ظلّوا حتى وقت قريب يسمّون يوم الفيضان "ليلة سقوط الدمعة".
كذلك اعتبر المصريون منابع النيل الجنوبية - جزيرة الفنتين بأسوان كما اعتقدوا وقتها - مركز الكون وبؤرتهم الرئيسية لتحديد الاتجاه الأساسية؛ الشمال والجنوب والشرق والغرب، حتى أنه في اللغة المصرية القديمة ظهرت مصطلحات تشير إلى اتجاه الجنوب مقرونة بالماء مثل كلمة "خنتي" والتي قُصد بها التوجه نحو الجنوب لكنها تعني حرفيًّا "الإبحار نحو المنبع".
ولقد توصّل المصريون القدماء بحساباتهم الدقيقة إلى أن الرقم السحري للنجاة/ الحياة/ جودة الزراعة ألا يقل منسوب الفيضان عن 14 ذراعًا. قال المؤرخ اليوناني بلينيوس: "عندما يكون الارتفاع 12 ذراعًا تحدث المجاعة، وإذا كان 13 ذراعًا تجوع البلاد نسبيًّا، وإذ كان 14 فإنه يجلب البِشر والسرور، أما إذا وصل إلى 16 ذراعًا تحدث الرفاهية".
لأجل هذا أظهر المصري القديم نوعًا من التقديس لرقم 16؛ فعندما أراد تجسيد حابي (إله الفيضان) مثّله في بعض التصاوير على هيئة إله على رأسه مجموعة من النباتات المائية وحوله 16 طفلًا يمثلون الارتفاع الأمثل للفيضان، كما أن الإلهة حتحور كان يُطلق عليها سيدة الـ 16. وبشكل عام فإن المصري القديم كان يكتب الرقم 16 إذا أراد التعبير عن السرور والفرحة.
وبدلًا من اعتباره وسيلة للدمار وفناء الأرض، جعل المصريون من الفيضان وسيلة لفهم نشأة العالم! فبحسب مذهب عين شمس فإن العالم بدأ على شكل محيط مائي أزلي اسمه "نون" ظهر منه تل عالٍ استقر فوقه الإله الخالق المكتمل أتوم. يُشبه المحيط الأزلي أرض مصر حين يغمرها الفيضان بينما التلال العالية تكون أول جزء يظهر خلال هذا المحيط.
وبعد أن ظهر الإله المكتمل بهذه الطريقة قال: "لقد خلقتُ مياه الفيضان الجبّارة حتى يحصل الفقراء على حقوقهم فيها مثل الأقوياء".
أيضًا اعتقد المصريون أن هناك نموذجين أصليين للنهر؛ واحد في السماء وآخر تحت الأرض، وأن الإله رع يبحر يوميًّا مرتين بالنهار وبالليل في هذا النهرين على متن قاربه المقدس.
أظهر المصري القديم نوعًا من التقديس لرقم 16؛ فعندما أراد تجسيد حابي (إله الفيضان) مثّله في بعض التصاوير على هيئة إله على رأسه مجموعة من النباتات المائية وحوله 16 طفلًا يمثلون الارتفاع الأمثل للفيضان
بحسب كتاب الموتى فإن المتوفي يسبح في النهر السفلي حتى يصل إلى الفردوس وهناك يرتل مجموعة من التعاويذ تضمن له الحصول على شربة ماء رطبة من النيل الآخر الفوقي.
تاريخ من الاحتفاء
بمرور الوقت استخدم المصريون النيل ككلمةٍ تُقال للمدح فكتب أحدهم عن نفسه يومًا "أنا كنت نيلًا لأهلي". أيضًا كان لزامًا على المتوفي أن يقول خلال محاكمته "إني لم ألوث المياه (ماء النيل)، إني لم أمنع المياه عن أوقاتها، إني لم أضع سدًا للمياه الجارية".
كذلك حرص مجموعة كبيرة من الملوك مثل سيتي ورمسيس الثاني ومرنبتاح ورمسيس الثالث على تخصيص مراسيم تبجيل لإله النيل حابي عبر تقديم مجموعة مختلفة من القرابين والهبات لإحياء أعياد حابي أي فيضان النيل، أما الملك رمسيس الرابع فخلال امتداحه لنفسه قال: "لم أسدّ النيل عن المكان الذي يجري فيه".
في هذه الأجواء لا نستغرب احتفاء الأدب الفرعوني القديم بالنيل، مثلما فعل الشاعر المصري الذي كتب في سنة 1800 ق.م قصيدة جاء فيها:
"حمدًا لك أيها النيل الذي يتفجّر في باطن الأرض ثم يجري ليُغذي مصر
فهو الذي يسقي المروج، وقد خلقه "رع" لكي يُطعم كل دابة وماشية
...
فواعحبًا له من ملك عظيم
لكنه ملك لا يجبي إتاوة ولا يفرض ضريبة
صادق الوعد، وفي بالعهد"
هذا الوضع استمرّ مع تبلور الأدب المصري الحديث بالتزامن مع تصاعد الحديث عن ضرورة خلق هوية مصرية مستقلة في نهاية القرن الـ 19؛ فكتب الشاعر محمود سامي البارودي عن النيل خلال نفيه لجزيرة سرنديب قائلًا: "يا روضة النيل لا مسّتك بائقة/ ولا عدتك سماءٌ ذات أغداق"، وكتب حافظ إبراهيم يقول: "أمانيك الكبرى وهمّك أن ترى/ بأرجاء وادي النيل شعبًا منعمًا".
ومن بعدهما جاء أحمد شوقي ووضع بصمته الأساسية في هذا المضمار فكان أول شاعر مصري معاصر يختصُّ النيل بقصيدةٍ مطولة بلغ عدد أبياتها 130 بيتًا، في وقتٍ اقتصر فيه تعرّض الشعراء للنيل في قصائدهم من خلال مواقف عابرة أو أبياتٍ محدودة، إلى أن أتى شوقي وغيّر قواعد اللعبة وصدّر النيل في واجهة الشعر العربي بقصيدته التي بدأت بـ "من أي عهد في القرى تتدفق/ وبأي كفِّ في المدائن تغدق؟".
في قصيدته تطرّق شوقي إلى تقديس المصريين القدماء للنيل واعتبره سلوكًا منطقيًّا طالما أنهم يعتبرونه مصدر رزقهم الوحيد، قال: "دين الأوائل فيك دين مروءة/ لم لا يؤلّه مَن يقوت ويرزق.. أو أن مخلوقًا يؤلّه لم يكن/ لسواك مرتبة الألوهة تُخلق".
وعندما دخلت السينما إلى مصر فإن النيل لم يغب عن حبكاتها كثيرًا. فبحسب المؤرخ الفني محمود قاسم فإن المطرب محمد عبدالوهاب هو أقدم من تغنّى للنهر على الشاشة بعدما غنّى "النيل نجاشي" في فيلم "الوردة البيضاء" (1933).
جاء أحمد شوقي ووضع بصمته الأساسية في هذا المضمار فكان أول شاعر مصري معاصر يختصُّ النيل بقصيدةٍ مطولة بلغ عدد أبياتها 130 بيتًا
بعد ذلك كثرت أفلام المخرجين الذين داروا بأحداثها حول النهر ومن أبرزهم يوسف شاهين الذي جعل النيل محورًا رئيسيًّا للعديد من أعماله كـ "ابن النيل" عام 1951 و"صراع في الوادي" 1954، ثم فيلم "انت حبيبي" 1957، ثم وثّق أحداث تحول مجرى النهر في فيلم "النيل والحياة" عام 1968 وهو الفيلم الذي أعاد إنتاجه مُجددًا عام 1972م بِاسم "الناس والنيل".
ولقد ساعد مشروع السدّ العالي وحماس الدولة الكبير لإنشائه على تحويل هذا الحماس للعديد من الأفلام التي ارتبطت بالنيل كـ "عروس النيل" لفطين عبد الوهاب عام 1962 والذي ناقش أسطورة عروس النيل القديمة، وفيلم "الحقيقة العارية" من إخراج عاطف سالم الذي أرّخ للمراحل الأولى لبناء السد.
وعندما أراد نجيب محفوظ التعبير عن انتقادات حادة لأوضاع المجتمع المصري قبل النكسة كتب روايته الشهيرة "ثرثرة فوق النيل" التي تحولت إلى فيلم أُنتج عام 1971 ورصد تحول مجرى النيل من ساحة للمجد والبناء إلى وكر يهرب إليه مجموعة من العابثين الراغبين في الانشغال عن قضايا المجتمع الحقيقة.
حراس النيل
امتداد النيل الرأسي الطويل مع نُدرة فروعه الجانبية أدّى لتوزيع العُمران بشكلٍ متجاور في مساحةٍ محدودة نسبيًّا وهو الأمر الذي سهّل من قُدرة الحاكم في السيطرة عليهم وضبط رقعة دولته، مما ساعد بشكلٍ كبير على ظهور أول وحدة سياسية مستقرة عرفتها الدنيا.
ليس هذا وحسب وإنما بخلاف باقي دول العالم، تمتلك مصر عقدًا اجتماعيًّا خاصًا بها يقوم على علاقة طردية بين استقرار أحوال البلاد وصبر الرعية على حُكامهم وبين انتظام فيضان نهر النيل، وهو ما يتجلّى بوضوح في أنشودة كُتبت للملك رمسيس الرابع بمناسبة اعتلائه عرش مصر، كانت تقول: "الذين كانوا ينشرون القلاقل في هذه البلاد صاروا مسالمين بعد أن عاد النيل إلى الخروج من منابعه".
ولقد شهد تاريخ مصر على العديد من الوقائع التي رُبطت فيها حركات التمرد والتمزق السياسي بجفاف النهر، وعلى العكس فإن لحظات المجد ووحدة الدولة تكررت كثيرًا في أوقات الفيضان.
في فصل الفيضان انتصر رع على التمرد الفوضوي ضده، وهو نفس تاريخ تنصيب حورس على عرش مصر بعد انتصاره على غريمه سِت.
كذلك، فإنه طِيلة العهد الفاطمي كانت الحالة الأمنية لمصر ترتبط بمنسوب نهر النيل. فإذا انخفض وقعت المجاعات واضطرب الأمن وانتشرت أعمال السلب والنهب ووقعت المشاحنات بين طوائف الجيش واقتتل الناس مع بعضهم البعض على القوت والماء، بل وربما كانت له تبعات دولية في بعض الأحيان.
فبسبب نقص الفيضان والمجاعة تأخر الخليفة الفاطمي الظاهر لإعزاز دين الله سنة 415هـ/1025م من إرسال المعونات لبلاد الحجاز، وعندما هدّده أهلها بقطع الخُطبة له وإقامتها للعباسيين، اضطر إلى إرسالها رغم سوء الأوضاع. أيضًا في تلك الظروف أعلن أهل دمشق الانشقاق عن مصر، واحتاجت الدولة الفاطمية لبضع سنوات حتى استعادت نفوذها في الشام.
وهو ما تكرر في الشدة المستنصرية التي عجز فيها الخليفة الفاطمي عن إرسال الأموال للحجازيين فغيّر أمير مكة ولاءه لصالح الخليفة العباسي لينقطع ذِكر الدعوة الفاطمية في بلاد الحرمين، للسبب نفسه قطع والي أفريقيا وحلب الخطبة للفاطميين.
مثل هذه الأمثلة فرضت على الحاكم في مصر خطًا أحمر لا يُمكن للشعب التغاضي عنه وهو حراسة النيل الذي اعتبروا الحفاظ عليه ضرورة أساسية، لإثبات صلاحيته كقائد للدولة، وبالتأكيد فإن المصريين إذا كانوا قد احتملوا خسارة صحراء سيناء لسنوات عدة بعد نكسة تموز/يوليو، فإن ذلك الصبر لم يكن ليظهر أبدًا لو خسروا ماء النيل ولو لبضعة أشهر. وهو ما يفسّر أسباب تفكير بعض العسكريين البريطانيين في "قطع مياه النيل" عن مصر عشية التخطيط للعدوان الثلاثي في 1956.
والآن وفي ظلّ احتدام أزمة سدّ النهضة فإن تلك الرمزية لم تكن غائبة عن صانع القرار المصري؛ فلم تكن مصادفة أن تبدأ مصر مع السودان تدريبات جوية مشتركة حملت اسم "نسور النيل-1" في 2020. وتكررت في العام التالي، ثم تطورت لاحقًا إلى مناوراتٍ عسكرية شاملة شاركت فيها القوات البحرية والبرية والجوية وحَملت اسم "حُرّاس النيل".