بعد أوكرانيا.. لماذا توسّع روسيا عملياتها باتجاه دول الجوار الأوروبي؟
3 أكتوبر 2025
قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في منشور على حسابه بمنصة "إكس" بتاريخ 30 أيلول/سبتمبر: "باشرت مجموعة من خبرائنا العمل في الدنمارك لمشاركة تجربة أوكرانيا في مواجهة الطائرات المسيّرة. وقد وصل رجالنا للمشاركة في مناورات مشتركة مع شركائنا، وهو ما قد يشكل أساسًا لبناء نظام جديد للتصدي للطائرات المسيّرة الروسية وأي تهديدات مشابهة".
ابتداءً من 22 أيلول/سبتمبر الماضي، اتجهت معظم المطارات المدنية في كوبنهاغن وأوسلو إلى الإغلاق بعد رصد طائرات مسيّرة تخترق الأجواء، وتكرر التهديد في 24 من الشهر نفسه فوق أربع مطارات وقاعدة عسكرية دنماركية، قبل أن تُرصد طائرات مشابهة في 27 أيلول/سبتمبر فوق منطقة كارلسكرونا شرقي السويد.
شكّل اختراق طائرات مسيّرة للمجال الجوي في النرويج والسويد والدنمارك تأكيدًا لمخاوف الأوروبيين التي تصاعدت هذا الشهر، خصوصًا بعد دخول طائرات روسية من طراز "MiG-31" المجال الجوي لكل من إستونيا وبولندا، وهو ما بررته وزارة الدفاع الروسية بأنه "خطأ غير مقصود". في المقابل، قال وزير الدفاع الدنماركي تروليس لوند: "لا يوجد أدنى شك في أن من ارتكب هذا الاختراق محترف".
اتجهت معظم المطارات المدنية في كوبنهاغن وأوسلو إلى الإغلاق بعد رصد طائرات مسيّرة تخترق الأجواء
وأدت هذه الاختراقات إلى تعزيز الانطباع بأن أوروبا غير قادرة على الدفاع عن نفسها في مواجهة أي تهديد خارجي، سواء عبر حماية مجالها الجوي أو التصدي لعمليات التخريب والحرب السيبرانية المستمرة منذ ثلاث سنوات متواصلة.
هذا الوضع يفاقم الاستقطاب في السياسات الداخلية للدول الأوروبية، بين من يدعو إلى مواصلة دعم الحرب ومن يطالب بوقفها، وهو ما يشكّل أحد أشكال الضغط الدبلوماسي الذي يراهن عليه بوتين لتعطيل تمويل الحرب الروسية الأوكرانية.
لكن السؤال المطروح الآن: لماذا تصاعدت هذه العمليات مؤخرًا؟ وهل يتجه الناتو نحو التصعيد، أم يكتفي بتكرار التحذيرات؟
التصعيد لتحسين شروط التفاوض
منذ أغسطس/آب الماضي، نجحت القوات الأوكرانية في استهداف 38 مصفاة نفط داخل العمق الروسي، بعضها تعرّض للقصف أكثر من مرة، بينها وحدات تعد من الأكبر في البلاد بطاقة إنتاجية تصل إلى 340 ألف برميل يوميًا. وخلال شهري آب/أغسطس وأيلول/سبتمبر، أدت هذه الضربات إلى تعطيل جزء من إنتاج الديزل الروسي الذي يتجاوز مليون برميل يوميًا. وبحسب مركز "Energy Aspects " للدراسات، فإن استمرار هذه الهجمات قد يخفض إنتاج الطاقة الروسي إلى مستويات عام 2020 مع ظهور جائحة كورونا.
هذا النقص دفع تركيا إلى البحث عن بدائل في أسواق الهند والسعودية لتغطية احتياجاتها من الديزل، وهو ما أدى إلى ارتفاع سعر برميل الديزل مرتفع الجودة (Premium Diesel) من 25 إلى 30 دولارًا خلال الشهر الماضي، وهو أعلى مستوى منذ 15 شهرًا، مقارنة بأسعار الطاقة إبان الحرب الإسرائيلية الإيرانية.
ويُعزى تأثر أنقرة بشكل خاص إلى كونها المشتري الأول للديزل الروسي، حيث تستورد سنويًا نحو نصف إنتاجه. ومع حالة عدم اليقين التي تسيطر على أسواق الطاقة، يُتوقع أن ترتفع الأسعار تدريجيًا على عكس توقعات المحللين بانخفاضها في الظروف العادية.
الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي صرح قائلًا: "العقوبات الأكثر فعالية ضد روسيا هي استهداف مصافي النفط ومستودعات الوقود ومسارات الإمداد". وبحسب زيلينسكي، فإن تصاعد استخدام الطائرات المسيّرة والصواريخ الأوكرانية بعيدة المدى سيؤدي إلى معاناة الشعب الروسي من نقص الوقود واضطراب إمداداته. وقد أشارت تقارير روسية إلى ارتفاع أسعار الوقود محليًا بنسبة 40 % منذ كانون الثاني/ يناير، رغم أن الإنتاج الروسي كان يسجل فائضًا يفوق 50 % عن الاحتياجات المحلية.
وبينما رسم زيلينسكي معالم هذه الاستراتيجية نظريًا، جسّدتها القوات الأوكرانية ميدانيًا عبر ضربات متواصلة؛ إذ وصلت الطائرات المسيّرة الأوكرانية إلى عمق الداخل الروسي لمسافة تجاوزت 1000 كيلومتر، وأحيانًا 1400 كيلومتر كما حدث في قصف مصفاة تابعة لشركة "غازبروم" في مجمع "Neftekhim Salavat" بجمهورية بشكيريا. ومن أبرز العمليات خلال أيلول/سبتمبر الماضي، الهجوم الذي نفذه جهاز الاستخبارات العسكرية الأوكراني على محطة تكرير "فولغوغراد"، وهي من أكبر محطات التكرير في روسيا وتقع جنوب موسكو. هذا التصعيد دفع السلطات الروسية إلى تعطيل خدمات الإنترنت مؤقتًا في العاصمة لوقف خدمة تحديد المواقع (GPS) التي تستخدمها المسيّرات.
استهداف البنية التحتية الروسية للطاقة يشكل جزءًا من الاستراتيجية التي تتبناها كييف بدعم من دول الناتو، وعلى رأسها الولايات المتحدة، بهدف تكثيف الضغط على الرئيس فلاديمير بوتين. ويأتي ذلك بعد اللقاء الذي جمعه مع دونالد ترامب في ولاية ألاسكا منتصف آب/أغسطس الماضي، والذي لم يسفر عن أي اختراق سياسي. تمسك بوتين بمطالبه الرئيسية (الاحتفاظ بالقرم والدونباس، نزع سلاح أوكرانيا، ومنع انضمامها للناتو)، في حين شدد زيلينسكي وقادة الاتحاد الأوروبي على مواقفهم الرافضة لأي تنازلات. ومن رحم هذا الانسداد السياسي، وُلدت استراتيجية قصف البنية التحتية الروسية ورد موسكو بالتهديد باستهداف العواصم الأوروبية الأقرب إلى كييف.
يبقى السؤال المطروح: ما هو موقف الولايات المتحدة؟ وهل تُترك أوروبا لتواجه بوتين وحدها؟
استهداف البنية التحتية الروسية للطاقة يشكل جزءًا من الاستراتيجية التي تتبناها كييف بدعم من دول الناتو، وعلى رأسها الولايات المتحدة
تغيُّر في الموقف الأميركي
بدأت ملامح التحول في الموقف الأميركي تجاه الحرب الأوكرانية بالظهور منذ مطلع آب/أغسطس، لتبلغ ذروتها الأسبوع الماضي، عندما وصف الرئيس الأميركي دونالد ترامب نظيره الروسي فلاديمير بوتين بأنه "رجل ضعيف" و"نمر من ورق"، مؤكدًا أن "أوكرانيا في موقع يسمح لها بالانتصار واستعادة كامل أراضيها". ويعدّ هذا التحول دراميًا في خطاب ترامب، بعدما كان يتهم الرئيس الأوكراني سابقًا بأنه يجرّ العالم إلى حرب عالمية ثالثة دون امتلاكه أوراق ضغط أو قدرة على حسم المعركة.
ورغم أن الموقف الرسمي للولايات المتحدة لم يتغير بعد هذا التصريح، وبقي في حدود تزويد الأوروبيين بالسلاح ليتم تسليمه للأوكران، إلا أن مؤشرات التصعيد باتت واضحة. فقد نقلت صحيفة "وول ستريت جورنال" عن مسؤولين أميركيين أن ترامب أعطى الضوء الأخضر لتزويد كييف بقدرات استخباراتية وصواريخ "توماهوك" التي يصل مداها إلى 2500 كيلومتر، لاستهداف مصافي النفط وخطوط الغاز ومراكز التوزيع داخل روسيا وخارجها. وهي المرة الأولى التي تبحث فيها واشنطن علنًا استهداف بنية الطاقة الروسية، خاصة بعد فشلها في منع الهند وتركيا وبعض الدول الأوروبية من شراء النفط والديزل الروسي عبر ما يُعرف بـ"أسطول الظل" في البحر الأسود.
في المقابل، ومع تصاعد اختراق الطائرات الروسية والمسيّرات للأجواء الأوروبية، شدد عدد من المسؤولين الأوروبيين لهجتهم. وقال وزير الخارجية البولندي وارند راديك: "لو أن صاروخًا أو طائرة أخرى اقتحمت مجالنا الجوي عمدًا أو عن طريق الخطأ، فإننا سنسقطها، ونرجو ألا تتذمروا من ذلك، فقد تم تحذيركم".
وقد نال هذا الموقف تأييدًا علنيًا من ترامب، في إشارة إلى أن الولايات المتحدة لن تلتزم موقفًا انعزاليًا هذه المرة، فيما بدأت دول مثل السويد والدنمارك تحركات عاجلة لنشر أنظمة دفاع جوي في مناطق الانتهاكات الروسية، معلنة استعدادها لتشييد مظلة دفاعية مشتركة لحماية دول البلطيق وشرق أوروبا.