جورج أورويل.. التحذير من أوجه الاستبداد المتخفّي
4 أكتوبر 2025
لا يزال جورج أورويل، بعد أكثر من سبعين عامًا على رحيله، حاضرًا في قلب النقاشات السياسية والفكرية المعاصرة. فقراءته اليوم لا تعني العودة إلى زمنٍ مضى، بل مواجهة حاضرٍ تتجدد فيه أشكال السيطرة بطرق أكثر نعومة وتعقيدًا حيث حذّر أورويل مبكرًا من أن الاستبداد لا يرتدي دائمًا زيه التقليدي، فهو قد يتسلل تحت شعارات الحرية والديمقراطية، ويتخفّى داخل أيديولوجيات براقة تفرغ القيم من مضمونها، وتعيد تشكيل اللغة بما يخدم السلطة لا الحقيقة.
كان هذا التحذير بمثابة تشخيصٍ عميق لآليات الحكم والسيطرة التي يمكن أن تنشأ حتى في أنظمة تُقدّم نفسها على أنها ديمقراطية. في زمن تتسارع فيه التحولات السياسية والإعلامية يصبح استحضار أورويل ضرورة لفهم كيف يمكن للخطاب السياسي أن يتحول إلى أداة للهيمنة، وكيف يمكن للحرية أن تُختطف من داخل مؤسساتها نفسها.
أورويل الإنسان في عزلة جزيرته
في أواخر حياته، اختار جورج أورويل العزلة على جزيرة "جورا" النائية في أقصى شمال اسكتلندا بعيدًا عن ضجيج لندن ومعارك السياسة اليومية. لم تكن هذه العزلة مجرد ملاذٍ صحي لرجل أنهكه مرض السُل، بل كانت أيضًا مساحة تأمل مكثّفة صاغ فيها أفكاره الأخيرة عن الحقيقة والحرية والمستقبل السياسي للعالم.
هُناك، في الطبيعة البرية القاسية، كتب أورويل روايته الأشهر 1984، وكأنه كان يسابق الزمن لقول كل ما يريد قبل أن يخطفه المرض. لكن الجزيرة لم تغيّر فقط مزاجه الكتابي، بل أعادت تشكيل نظرته للناس والمجتمع. فعلى عكس تصوّراته القديمة التي حملت شيئًا من التحيّز تجاه الأسكتلنديين، قادته حياته اليومية في "جورا" إلى مخالطة الطبقات العاملة عن قرب، بعيدًا عن الطبقات الاجتماعية الغنية المتعالية والانتهازية التي عرفها في إنجلترا.
هذا الاحتكاك اليومي كشف له معدن الناس العاديين، بساطتهم، صلابـتهم، وقدرتهم على التعاون رغم قسوة الحياة فلقد كانوا يبذلون جهدًا مضاعفًا لتحسين ظروفهم المعيشية. لم يكن أورويل رومانسيًّا أو طوباويًّا في تعاطفه معهم، بل كان عقلانيًّا وواضحًا في إيمانه بأن التغيير الحقيقي لا تصنعه النخب، بل الطبقات الاجتماعية العادية عندما تدرك دورها التاريخي وتعي أهميتها.
كتب أورويل روايته الأشهر 1984، وكأنه كان يسابق الزمن لقول كل ما يريد قبل أن يخطفه المرض
إن فهم أورويل الكاتب لا يكتمل من دون رؤية أورويل الإنسان في لحظات ضعفه وعُزلته، حين كان يقلّب في ذهنه أسئلة كُبرى عن معنى الحرية ومصير الحقيقة وسط عالمٍ يتغير بسرعة مقلقة.
الاستبداد المتحوّل: من البيروقراطية إلى الأيديولوجيا الديمقراطية
لم يكن تحذير أورويل من الشمولية مقتصرًا على الأنظمة الديكتاتورية التقليدية، فقد أدرك مبكرًا أن الاستبداد لا يحتاج دائمًا إلى طاغيةٍ صريحٍ أو أجهزة قمعٍ مرئية كي يفرض سيطرته، بل يمكن أن يتسلّل داخل البُنى البيروقراطية والأنظمة السياسية التي ترفع شعارات الحرية والمساواة. في رواية 1984، لم تكن الرقابة قائمة على العنف الجسدي وحده، بل على منظومة متكاملة من المراقبة الدائمة عبر شاشات تراقب كل حركة وتعبير للمواطنين. واليوم، لم تعد تلك الشاشات بحاجةٍ لأن تُثبت على الجدران؛ فهي ببساطة انتقلت إلى جيوبنا على هيئة تطبيقات هواتف ذكية تجمع بياناتنا وتراقب سلوكنا وتعيد تشكيل وعينا من دون أن ننتبه.
لكن المراقبة، في نظر أورويل، لم تكن الخطر الوحيد. فالركيزة الأخطر للشمولية هي اللغة. فعندما تُفرَغ الكلمات من معناها وتُعاد صياغتها لتخدم السُلطة، تصبح الحقيقة نفسها مهددة. في 1984، اخترعت السلطة ما سمّته اللغة الجديدة (Newspeak) لتقليص مجال التفكير المستقل وإلغاء المفردات التي قد تعبّر عن المعارضة أو التمرّد. وفي عالمنا المعاصر، شهدنا نسخًا ناعمة من هذه الظاهرة، كما في مصطلح "الحقائق البديلة" والذي روّجت له كيليان كونواي، إحدى أبرز مساعدي الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، لتبرير الأكاذيب السياسية تحت غطاءٍ لغوي جديد.
اللغة كأداة للهيمنة
في قلب رؤية أورويل للاستبداد، تقف اللغة لا بوصفها وسيلة تواصل بريئة، بل أداة سياسية مركزية لإعادة تشكيل الوعي الجمعي وضبط حدود التفكير. فقد أدرك أن التحكم باللغة يسبق دائمًا التحكم بالبشر، وأن أي نظام سلطوي يسعى – قبل كل شيء – إلى تحديد ما يمكن قوله، وبالتالي ما يمكن التفكير به. لذلك تسعى الأنظمة القمعية إلى فرض أفكارها على اللغة، وتحويلها إلى أداة ضمن مشروع سلطوي شامل، هدفه النهائي ليس مجرد تقييد التعبير، بل إلغاء إمكانية التفكير الحر من أساسها. فعندما تتغيّر معاني الكلمات، يصبح من السهل تمرير السياسات من دون مقاومة، لأن النقاش العام نفسه يُعاد تشكيله من الداخل.
كلمات مثل: "الحرية" أو "الأمن" أو "العدالة" قد تُحمّل بمعانٍ جديدة تخدم السلطة، فتتحوّل من مفاهيم تحررية إلى أدوات تبرير للرقابة والسيطرة.
في عالمنا المعاصر، تظهر هذه الممارسات اللغوية بوضوح. فمصطلحات مثل "الحقائق البديلة" جعلت الكذب يبدو وكأنه مجرد وجهة نظر أخرى. وعبارات مثل أضرار جانبية (collateral damage) تخفف من وقع الجرائم الحربية وتفرغها من بعدها الإنساني، بينما يستخدم مصطلح "مكافحة الإرهاب" لتبرير توسيع صلاحيات الدولة الأمنية على حساب الحريات المدنية. أما تعبير الأخبار الكاذبة (fake news) فقد تحوّل من وصف لظاهرة إعلامية حقيقية إلى سلاح سياسي لتشويه كل معلومة لا تتماشى مع رواية السلطة.
كلمات مثل: "الحرية" أو "الأمن" أو "العدالة" قد تُحمّل بمعانٍ جديدة تخدم السلطة، فتتحوّل من مفاهيم تحررية إلى أدوات تبرير للرقابة والسيطرة
لقد حذّر أورويل من أن أخطر أشكال القمع ليست تلك التي تُمارَس بالعنف، بل تلك التي تُمارَس من خلال الكلمات، لأنها تعمل في صمت، وتتسلل إلى العقول قبل أن تُفرض على الأجساد. اللغة هنا ليست مجرد ضحية، بل ساحة المعركة الأولى والأخطر.
أورويل مرآة المستقبل
رغم رحيله في كانون الثاني/يناير 1950 ما زال أورويل، يطل علينا ليس ككاتب من الماضي، بل كصوتٍ نقدي يلاحق المستقبل. لقد فهم أن الاستبداد لا يولد فجأة، بل يتشكل تدريجيًّا من خلال تقاليد بيروقراطية متراكمة، ولغة موجهة، وخطاب سياسي يبرّر التنازل عن الحرية باسم الأمن أو المصلحة العامة. ومن يقرأه اليوم، يدرك أن العالم لم يبتعد كثيرًا عن ملامح التحذيرات التي رسمها في كتبه.
إن ما يجعل أورويل حاضرًا بقوة في زمننا هو أنه لم يكتفِ بانتقاد الطغيان الصريح، بل نبّه إلى الاستبداد المتسلل بهدوء من داخل البنى الديمقراطية نفسها. إنه الاستبداد الذي يغيّر معاني الكلمات، ويصنع واقعًا لغويًّا جديدًا، ويحوّل المواطن من فاعلٍ إلى مراقَبٍ ومنتَجٍ للبيانات.
في عالمٍ تتشابك فيه المصالح وتتقاطع التكنولوجيا مع السياسة والاقتصاد والإعلام، يصبح استحضار أورويل ضرورة فكرية وأخلاقية، لا مجرد تمرين ثقافي. فالدفاع عن الحرية لم يعد مسألة صراع مع طغاة مكشوفين، بل مع آليات ناعمة وعقولٍ مبرمجة على القبول. وكما كتب أورويل ذات مرة: "في زمن الخداع، قول الحقيقة عمل ثوري". ربما لهذا السبب، فإن العودة إلى أورويل ليست هروبًا إلى الماضي، بل نظرة ثاقبة إلى المستقبل الذي يتشكّل أمامنا.