جيل بعد جيل.. هل يطوّر العالم العربي أدوات احتجاجه؟
3 أكتوبر 2025
شهد العالم العربي خلال العقدين الماضيين ثلاث موجات احتجاجية كبرى، بدأت نهاية عام 2010 في تونس، ثم انتقلت إلى مصر وليبيا وسوريا واليمن والبحرين، وباتت تسمّى ثورات الربيع العربي. وشهدت في 2019 موجات جديدة من الغضب في عدد من الدول هي العراق ولبنان والجزائر والسودان، واليوم، في الربع الأخير من عام 2025، تصل إلى المغرب على شكل احتجاجات "جيل زد 212".
وعلى الرغم من اختلاف السياقات، فإن هذه الموجات تعبّر عن استمرارية المزاج الاحتجاجي في المنطقة، وعن حضور شعبي دائم يرفض أن يتحوّل الاستبداد واللامساواة إلى أمر واقع.
انطلقت الموجة الأولى من مطالب اجتماعية-اقتصادية سرعان ما تحولت إلى مطالب سياسية كبرى، وكانت ردود الأنظمة عليها متفاوتة، بين السقوط السريع كما في تونس ومصر والانزلاق إلى الحروب الطويلة كما في سوريا وليبيا واليمن.
في حين اتسمت الموجة الثانية بطابع سياسي مباشر، ورفعت شعارات ضد النخب والفساد، لكنها واجهت تحديات عديدة حالت دون تحوّلها إلى انتقال سياسي مستقر، كما ان ردود فعل الأنظمة الحاكمة عليها كانت مختلفة بين القمع والاحتواء أو الاستفادة منها وتوجيهها.
واليوم فيما نتابع مجريات الأسبوع الأول من الموجة المغربية الجديدة، عبر عودة الأولويات الاجتماعية إلى الواجهة، واعتماد المتظاهرين على برامج رقميّة مغلقة، دون وجود قيادة مركزية واضحة، لكن الغضب هو الغضب القديم ذاته، ويبدو أن الأجيال تتوارثه وتعبر عنه بطرق مختلفة، ولهذا نراه غضبًا يصر على أن يتجدد في هذه المنطقة المتعطشة للتغيير.
لا بد من مقارنة سريعة بين الموجات الثلاث في بنية اندلاعها ومطالبها وأدواتها من جهة، واستجابات الأنظمة تجاهها من جهة اخرى.
كما لا بد من التفكير في السؤال المركزي الذي تطرحها هذه الموجات في كل مرحلة، وهو: هل هناك تطوّر فعلي في أنماط الاحتجاج السياسي والاجتماعي في العالم العربي، أم أننا ما زلنا ندور في أنماط متكررة، تقوم على الانفجار وردّ الفعل؟
عام 2011.. ولادة الموجة الأولى
كل الحكاية بدأت من تونس. وحكاية تونس بدأت من جنوبها مع حادثة البوعزيزي، التي سرعان ما تحولت من صرخة فردية إلى موجة جماعية اجتاحت العالم العربي، محولةً العقد الثالث من الألفية الجديدة إلى مرحلة عسيرة من التحديات.
كانت البداية على شكل مطالب اجتماعية. رفعت الثورات شعار "عمل، حرية، خبز"، في رد فعل عام على عقود من حكم استبدادي منخرط في تطبيق إملاءات البنك الدولي. لتتطور مع الوقت إلى شعار سياسي جامع هو "الشعب يريد إسقاط النظام".
تميزت تلك الموجة بالاعتماد على فيسبوك وتويتر، حيث استخدمت بوصفها منصات للتعبئة، ومع انخراط قوى منظمة كالتيارات الإسلامية والنقابات والطلاب، اصطدمت الموجة الفجائية والكثيفة بخيار انهيار سريع للأنظمة، أو برد عنيف ودموي كما حدث في سوريا وليبيا واليمن.
عام 2019.. ولادة الموجة الثانية
بعد ثماني سنوات، وخلال الحقبة المظلمة التي تعيشها بلدان الموجة الأولى التي لم تحقق نجاحًا حقيقيًّا إلا في تونس، ظهرت موجة جديدة في العراق ولبنان والسودان والجزائر.
لم يكن الخبز هو المحرك الأول والوحيد هذه المرة، بل شاركته الدور عوامل كثيرة كالفساد السياسي والطائفية والعسكرة.
رفع شباب الموجة الثانية شعارات مباشرة ضد النخب، اشتهر منها الشعار اللبناني "كلن يعني كلن"، مطالبين بإعادة صياغة الشرعية السياسية نفسها.
في الجزائر جرى امتصاص الحراك بإبعاد بوتفليقة دون تغيير جذري، وفي السودان أطيح بالبشير لكن الثورة أُجهضت بانقلاب ثم حرب أهلية، أما السيناريو الذي كُتب في العراق ولبنان فهو القمع ورسوخ النظام الطائفي.
في هذه الموجة السريعة، برزت شبكة مطالب متفرقة، كان أهمها رفض الطائفية في العراق ولبنان، وهذا تحول بالغ الأهمية في سياق هذين البلدين، إلا أن التنظيم عبر الساحات والتنسيقيات افتقر إلى أدوات تحميه من الاختراق والتبدد.
خمدت الموجة دون أن يعني ذلك انتهاء الغضب وحلم التغيير.
عام 2025.. ولادة الموجة الثالثة
تبدو الموجة المغربية، وهي وحيدة لا يشاركها فيها بلد آخر على عكس الموجات السابقة، موجة جيلية بامتياز، يدفعها شعور جماعي بالمهانة من بلد ينفق على الملاعب تحضيرًا للمونديال بينما يفتقر إلى المشافي والمدارس.
المطالب اجتماعية صريحة: صحة، وتعليم، وعدالة اجتماعية، ومحاربة الفساد. أما التنظيم هذه المرة فهو رقمي بالكامل، يعتمد على تطبيقات تيك توك وديسكورد وإنستغرام، من خلال مجموعات مغلقة تصعب مراقبتها.
الحركة الحالية بلا قيادة، ورد فعل الدولة يبدو حذرًا، إذ إن القمع محدود نوعًا ما، ويصحبه خطاب تهدئة واستعداد للحوار، في محاولة لاحتواء الغضب بدلًا من الصدام المباشر.
ستقودنا الأيام المقبلة بمزيد من معرفة التحولات والمآلات، لكن الواضح حتى الآن أن الربيع العربي لم يكتب نهايته، ولا يبدو أنه سيفعل ذلك في وقت قريب.
دروس عقد ونصف
تكشف المقارنة أنّ لكل موجة هويتها الخاصة، وأن هناك تطورًا في مقاربة الأمور سواء من طرف الثائرين أو من طرف السلطة.
في 2011 كان الهاجس هو الحرية السياسية، وفي 2019 كان رفض النخب والفساد، أما في 2025 فالأولوية باتت العدالة الاجتماعية والخدمات الأساسية.
يعكس هذا التحول تغيّر اللغة والأدوات والفاعلين، لكنه يظل محكومًا بخيط ناظم أنّ كل جيل يجد نفسه مضطرًا لإعادة طرح السؤال ذاته عن معنى الدولة وقدرتها على ضمان الكرامة.
وإذا كان ما يجري اليوم في المغرب إشارة إلى أن السلطة تعلّمت الدرس، وأنها اختارت التهدئة بدلًا من القمع والبطش على غرار سلطات عربية أخرى، فهذا يعني أن الأنظمة باتت مرغمة على الإصغاء لمجتمعاتها، وعدم قيادتها إلى الهلاك كما حدث في ليبيا وسوريا واليمن.
لا ندري إن كانت هذه المرحلة مجرد هدنة مؤقتة، تسبق انفجارًا أعنف، وقتها سيكون علينا أن ندرك أننا لم نتعلم الدرس بعد، وأننا ما زلنا ندور في حلقة مفرغة من الغضب والقمع والانهيار.