22-مايو-2025
أحمد قاسم حسين

الباحث أحمد قاسم حسين (الترا صوت/فيسبوك)

علّقت بريطانيا مفاوضات اتفاقية التجارة الحرة الجديدة مع إسرائيل، وأقر البرلمان الإسباني توصية لفرض حظر توريد الأسلحة إليها، كما أكدت مسؤولة الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي كايا كالاس أن مقترح إعادة النظر باتفاقية الشراكة الإستراتيجية مع إسرائيل حظي بدعم غالبية دول الاتحاد. كما تتجه عواصم أوروبية وغير أوروبية مثل باريس ولندن وأوتاوا إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية، في ديناميكية أكدت الخارجية الفرنسية والبريطانية أنها لن تتوقف عند تلك العواصم. واللافت للانتباه أن هذا التصعيد الأوروبي والدولي يحدث ضد إسرائيل دون أدنى تدخلٍ أميركي لمحاولة وقفه، ومن باب أحرى إدانته.

ولعل ذلك ما دفع بعض وسائل الإعلام العبرية إلى الحديث عن إسرائيل كدولة "منبوذة" حاليًا، تتراجع مكانتها الدبلوماسية باضطراد منذ بدء حرب الإبادة الجماعية على غزة قبل 19 شهرا.

وللتعمق أكثر في مشهد "تراجع" العلاقات الأوروبية الإسرائيلية وتداعياتها المحتملة، حاورنا في موقع الترا صوت الباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات أحمد قاسم حسين المختص في العلاقات الأوروبية العربية ومدير تحرير دورية سياسات عربية التي تصدر عن المركز.


  • هل يمكننا أن نعتبر المواقف والإجراءات الأخيرة الصادرة عن عدة دول أوروبية دليلا على تصدع العلاقات الأوروبية الإسرائيلية؟

نعم، يمكن اعتبار هذه التحولات مؤشرًا على توتر بنيوي متصاعد في العلاقات الأوروبية الإسرائيلية، إلا أن وصفها بـ"تصدّع" ما يزال يحتاج إلى تمحيص دقيق ضمن إطار تحليلي يأخذ في الاعتبار الطبيعة المتعددة المستويات للعلاقات الأوروبية الإسرائيلية، التي تتسم بتداخل اقتصادي–سياسي–أمني، وتحكمها اعتبارات داخلية وخارجية معقدة. انطلاقًا من ذلك، يمكن تحليل هذا التحوّل من خلال ثلاثة أبعاد مترابطة.

أولًا: البُعد المؤسسي – حدود التغيير

رغم أن تعليق بريطانيا لمفاوضات اتفاق التجارة الحرة، وتوصية البرلمان الإسباني بفرض حظر أسلحة، وتصريحات كايا كالأس بشأن مراجعة اتفاقية الشراكة، تمثّل تحولات سياسية واضحة في المواقف الأوروبية، إلا أن الهيكل المؤسسي للعلاقة لم يتغير بعد. فالاتحاد الأوروبي ما زال يحتفظ باتفاقية الشراكة لعام 2000، ولم يُفعّل أي إجراءات عقابية ضمن أدواته المؤسسية مثل "بند حقوق الإنسان". وعليه، فإن العلاقة من منظور مؤسسي ما تزال قائمة ومستقرة – وإن كانت متوترة.

ثانيًا: البُعد السياسي–الأخلاقي – تحوّل في المزاج الأوروبي العام

ما يجري حاليًا هو تحوّل في الخطاب السياسي الأوروبي، إذ بدأت قطاعات متزايدة من النخب السياسية، والمجتمع المدني، ووسائل الإعلام، تتبنى مواقف أكثر انتقادًا للسياسات الإسرائيلية، خصوصًا في ظل الحرب على غزة منذ أكتوبر 2023. هذا المزاج ينعكس على مواقف رسمية كالتصريحات الداعية لمراجعة الشراكة، وتوصيات البرلمانات الوطنية. هذا التحول في الخطاب لا يُنتج سياسات بشكل مباشر، لكنه يضغط على المؤسسات السياسية الأوروبية ويدفع باتجاه إعادة تقييم العلاقة مع إسرائيل وفق معايير أخلاقية مرتبطة بحقوق الإنسان، وهو ما يشكل تآكلًا تدريجيًا للشرعية السياسية التي كانت تتمتع بها إسرائيل في أوروبا.

ثالثًا: البُعد الجيوسياسي – التوتر بين الاعتبارات الاستراتيجية والضغط الشعبي

رغم هذه المؤشرات، فإن الاعتبارات الاستراتيجية – لا سيما في مجالات التعاون الأمني، وتبادل المعلومات الاستخباراتية، والتكنولوجيا، والتجارة – لا تزال تلعب دورًا كابحًا لأي "قطيعة" فعلية. حتى الآن، لم نشهد خطوات أوروبية نحو؛ فرض عقوبات أو وقف الشراكات التقنية أو العسكرية أو تجميد اتفاقية الشراكة على المستوى الرسمي. وهذا يعني أن المنظور الواقعي للعلاقات لا يزال حاضرًا بقوة، خاصة في دول مثل ألمانيا وفرنسا التي تربطها بإسرائيل مصالح استراتيجية متقدمة.

أحمد قاسم حسين: لا يمكن الجزم بوجود تصدّع شامل في العلاقات الأوروبية الإسرائيلية، لكن يمكن القول إننا أمام مرحلة انتقالية تتسم بإعادة تعريف تدريجية للعلاقة

بناءً على ما سبق، لا يمكن الجزم بوجود تصدّع شامل في العلاقات الأوروبية الإسرائيلية، لكن يمكن القول إننا أمام مرحلة انتقالية تتسم بإعادة تعريف تدريجية للعلاقة، خاصة مع تزايد الفجوة بين السلوك الإسرائيلي والانكشاف الأخلاقي والسياسي له أمام الرأي العام الأوروبي. هذا التوتر مرشح للتصاعد إذا استمرت الحرب في غزة دون التزام إسرائيلي بالقانون الدولي الإنساني، أو في حال تفاقمت الأزمات الحقوقية. حينها فقط يمكن أن نشهد تحوّلًا من مستوى الخطاب السياسي إلى إجراءات مؤسسية تمس جوهر العلاقة.

  • بناء على ما ذكرتموه آنفًا ما هي محددات العلاقة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل؟

يمكن تحديد العلاقة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل من خلال خمس مجموعات رئيسة من المحددات المتداخلة، تُظهر الطابع المركّب وغير الخطي لهذه العلاقة، بعيدًا عن الثنائية الاختزالية بين "شراكة" و"قطيعة":

أولًا: المحددات التاريخية – الإرث الأوروبي تجاه المشروع الصهيوني

منذ عقود، شكّلت أوروبا حاضنة مبكرة للدعم السياسي والمعنوي لإسرائيل، مدفوعةً بثلاثة عوامل تاريخية:

  • الشعور بالذنب الأوروبي تجاه المحرقة (الهولوكوست)، لا سيما في ألمانيا وفرنسا، ما انعكس على خطاب سياسي يُضفي شرعية أخلاقية على "دولة إسرائيل".
  • إرث الاستعمار البريطاني في فلسطين، الذي أنتج علاقة معقّدة بين أوروبا وفكرة الدولة القومية اليهودية.
  • دور أوروبا في نشوء النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، الذي أسس لاعتراف دولي بإسرائيل دون التزام موازٍ تجاه حقوق الشعب الفلسطيني.

هذه العوامل أسست لمرحلة من التسامح السياسي الأوروبي مع السياسات الإسرائيلية، حتى حين كانت تتناقض مع القانون الدولي.

ثانيًا: المحددات المؤسسية – بنية الشراكة القانونية والاقتصادية

اتفاقية الشراكة الأوروبية الإسرائيلية (2000)، والتي تُعد الإطار القانوني للعلاقات التجارية والاقتصادية، تمنح إسرائيل وضع "شريك متميز"، مقابل التزامها بمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان. كما أن إسرائيل أيضًا عضو في عدد من البرامج الأوروبية البحثية والابتكارية مثل Horizon Europe)). ان هذه العلاقة المؤسسية تعزز من ترابط المصالح، لكن الشق القيمي في الاتفاقيات – مثل احترام القانون الدولي – أصبح محل مساءلة في السنوات الأخيرة، خاصةً بعد تصاعد الانتقادات الأوروبية لسلوك إسرائيل في الأراضي الفلسطينية.

ثالثًا: المحددات السياسية – الانقسامات داخل الاتحاد الأوروبي

الاتحاد الأوروبي لا يمتلك سياسة خارجية موحدة تجاه إسرائيل، بل تتفاوت المواقف تبعًا للأولويات السياسية للدول الأعضاء:

  • دول مثل ألمانيا والنمسا والمجر تميل إلى دعم غير مشروط لإسرائيل.
  • في المقابل، دول مثل إيرلندا، إسبانيا، بلجيكا، ولوكسمبورغ تتبنى خطابًا ناقدًا أكثر وضوحًا تجاه الاحتلال والسياسات الإسرائيلية.

هذا الانقسام يضعف قدرة الاتحاد على اتخاذ مواقف موحدة، ويجعل العلاقة خاضعة للتجاذبات بين تيارات أوروبية متناقضة.

رابعًا: المحددات الأمنية – محورية "مكافحة الإرهاب" والهجرة غير النظامية

الاتحاد الأوروبي يرى في إسرائيل شريكًا أمنيًا استراتيجيًا، خاصة في مجالات:

  • التكنولوجيا السيبرانية.
  • مراقبة الحدود.
  • تبادل المعلومات الاستخباراتية.

كما أن التعاون في ملف الهجرة غير الشرعية من شرق المتوسط و"استقرار" المنطقة يلعب دورًا حيويًا في تعزيز هذا البعد. وفي هدا السياق نلاحظ أن الاعتبارات الأمنية الواقعية تغلب أحيانًا على الاعتبارات القيمية، وهو ما يفسّر التردد الأوروبي في اتخاذ خطوات عقابية واضحة تجاه انتهاكات إسرائيل.

خامسًا: المحددات القيمية والحقوقية – ضغط المجتمع المدني الأوروبي

منذ الانتفاضة الثانية ثم حرب غزة 2014، تصاعد الخطاب الحقوقي في أوروبا المطالب بمساءلة إسرائيل عن انتهاكاتها، لا سيما مع صعود حركات المقاطعة (BDS). هذا العامل بات يُشكّل ضغطًا على صنّاع القرار الأوروبيين، خاصة في البرلمانات، ويظهر مؤخرًا في:

  • دعوات إلى وقف تصدير السلاح.
  • مراجعة الاتفاقيات الثنائية.
  • ارتفاع منسوب النقد داخل الأحزاب اليسارية والخضراء.

لكن هذا التأثير لم يتحول بعد إلى سياسات ملزمة على المستوى الأوروبي الموحد.

 إن العلاقة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل تحكمها بنية معقّدة من التفاعلات التاريخية، القانونية، السياسية، الأمنية، والقيمية. ولا يمكن فهم هذه العلاقة إلا من خلال إدراك الطابع التفاعلي بين هذه المحددات، حيث تتحرك أوروبا بين الاعتبارات الواقعية (Realist) المرتبطة بالمصالح الأمنية والاقتصادية، والاعتبارات البنائية (Constructivist) المرتبطة بالقيم والهوية الأوروبية. ما نشهده حاليًا هو صراع داخلي أوروبي لإعادة تعريف العلاقة مع إسرائيل في ضوء أزمة الشرعية الأخلاقية المتفاقمة، ما قد يُنتج تحوّلًا تدريجيًا في ميزان العلاقة، لكنه لا يشكل في الوقت الراهن قطيعة بنيوية.

  • هل ترون أن إسرائيل باتت مهددة فعلا بأن تكون "منبوذة" وهل تعرضت مكانتها الدولية للتراجع كما يقول بذلك بعض الإعلام العبري؟

يمكن القول إن مكانة إسرائيل الدولية تمرّ بمرحلة تراجع ملحوظ وغير مسبوق منذ تأسيسها عام 1948، ويُمكن توصيف هذا التراجع – وفق التحليل الموضوعي – بأنه "تآكل تدريجي للشرعية الدولية"، وليس بالضرورة "نبذًا دوليًا شاملاً" بعد. لكنه يحمل مؤشرات واضحة على عزلة متزايدة في مستويات الرأي العام الدولي وبعض الأوساط الرسمية والسياسية، وهو ما تعكسه بوضوح تقارير ومقالات لوسائل إعلام إسرائيلية نفسها، مثل هآرتس ويديعوت أحرونوت وتايمز أوف إسرائيل.

أولًا: تآكل الشرعية الأخلاقية – الرأي العام الدولي والمجتمع المدني

منذ بدء الحرب على غزة في أكتوبر 2023، تصاعدت الاحتجاجات الشعبية في العواصم الغربية ضد السياسات الإسرائيلية، لا بوصفها "دفاعًا عن النفس"، بل كممارسات تنتهك القانون الدولي الإنساني. حيث وصف مئات الأكاديميين والمثقفين في جامعات أمريكية وبريطانية وكندية  ممارسات إسرائيل في غزة بأنها "أفعال ترقى إلى الإبادة الجماعية"، في ضوء تقارير منظمات حقوقية مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية. كما أن تصاعد حملات المقاطعة الأكاديمية والثقافية، وهو ما يشكّل أخطر موجة عزلة رمزية تتعرض لها إسرائيل منذ الثمانينيات.

ثانيًا: توتر العلاقات مع شركاء تقليديين

قدمت جنوب أفريقيا  دعوى أمام محكمة العدل الدولية تتهم فيها إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في غزة، وهو تطور نوعي يُحوّل إسرائيل من "فاعل دولي" إلى "مدعى عليه" في مؤسسة أممية شرعية. كما سحبت دول أمريكا اللاتينية مثل بوليفيا وكولومبيا وتشيلي سفراءها أو جمّدت علاقاتها. وقد بدأ الاتحاد الأوروبي بدأ بمراجعة بعض أدوات الشراكة مع إسرائيل (كما أشرنا أعلاه)، وبرزت تصريحات رسمية تنتقد صراحة العدوان على غزة، لا سيما من إيرلندا وإسبانيا وبلجيكا.

ثالثًا: تراجع صورة إسرائيل في الإعلام الغربي والتيار الليبرالي اليهودي

فقد باتت قطاعات واسعة من اليهود التقدميين في الولايات المتحدة تُشكك في "مشروعية السياسات الإسرائيلية"، وتدعو إلى فك الارتباط بين "الهوية اليهودية" والمشروع الاستيطاني. إضافة إلى  مؤسسات إعلامية غربية كبرى لم تعد تتبنى الرواية الإسرائيلية كما في السابق، بل تنشر تقارير موسعة عن جرائم الحرب والانتهاكات بحق المدنيين. هذا التحول يُزعج صانعي القرار في تل أبيب، كما ظهر في تصريحات نتنياهو الأخيرة حول "انهيار الدعم الغربي"، واتهاماته للمنظمات الحقوقية.

أحمد قاسم حسين: تمر مكانة إسرائيل الدولية بمرحلة تراجع ملحوظ وغير مسبوق منذ تأسيسها عام 1948، ويُمكن توصيف هذا التراجع بأنه "تآكل تدريجي للشرعية الدولية"، وليس بالضرورة "نبذًا دوليًا شاملاً" بعد

باعتقادي ما تواجهه إسرائيل اليوم ليس مجرد أزمة علاقات عامة، بل أزمة شرعية دولية متعددة المستويات. لم تصبح إسرائيل "منبوذة" بالكامل بعد – إذ لا تزال تحتفظ بدعم غير مشروط من الولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبية – لكنها تواجه تحولًا جذريًا في الطريقة التي يُنظر بها إلى دورها في النظام الدولي، من ضحية إلى قوة احتلال مهيمنة وعنيفة. إذا استمر هذا المسار، وخصوصًا إذا صدرت قرارات إدانة رسمية من محكمة العدل الدولية أو المحكمة الجنائية الدولية، فإن فكرة "النبذ" قد تتحول من خطاب إعلامي إلى واقع قانوني وسياسي فعلي.

  • ماذا عن مستقبل العلاقات الأوروبية الإسرائيلية في المنظور القريب؟

في المنظور القريب، أتوقع أن تشهد العلاقات الأوروبية الإسرائيلية حالة من التوتر المتصاعد دون أن تصل إلى قطيعة استراتيجية، وذلك في ظل استمرار الحرب على غزة وتزايد الضغوط الحقوقية والسياسية داخل أوروبا. غير أن مستقبل هذه العلاقة سيبقى مرهونًا بعدة متغيرات حاسمة. السيناريو الأكثر ترجيحًا هو استمرار العلاقات ضمن نمط "شراكة مشروطة أخلاقيًا"، أي دون قطيعة رسمية، ولكن مع ضغوط رمزية وسياسية قد تتصاعد إذا استمر الانزلاق الإسرائيلي نحو مزيد من الانتهاكات.