حوار| فادي العبد الله: ليس لدينا مشاريع اجتماعية أو فكرية كُبرى ينتج عنها تثمير المواهب
22 سبتمبر 2025
في محاولة لفتح مساحات جديدة ترتبط بالحوار الثقافي الجاد لا يمكن أن تبتعد الموسيقى عن الأدب، إذ أنها أكثر انتشارًا وأكثر تأثيرًا في العديد من الطبقات الاجتماعية. ناهيكم عن التغيرات السياسية والمؤثرات الثقافية وتغير ترتيب البشر في السلم الاجتماعي. أحاول هُنا أن أطرح مساحة مغايرة يتشابك فيها الأدب ولنقد الموسيقي مع الشِعر، لذلك كان عليّ سؤال الباحث اللبناني فادي العبد الله صاحب المشروع الفسيفسائي متعدد المشارب الثقافية.
عرفت فادي العبد الله من مقدمته لكتاب "كل ده كان ليه؟" للباحثة المصرية فيروز كراوية. هذه المقدمة التي تعد القارئ بدخول مساحة شِبه مجهولة في تاريخ الموسيقى المصرية الحديثة وأسباب تغيّرها. فيما بعد سأقرأ لفادي العبد الله مقالات عديدة في مواضيع نقدية متفرقة، سأقرأ أشعاره التي تزلزل روح قارئها. هُنا محاولة بسيطة للنِقاش، أسئلة وأجوبة عن ما يدور في بالي.
- في رأيك: أي فترة تاريخية فارقة في تاريخ الموسيقى العربية لم يتم تناولها نقديًّا أو بحثيًّا كما تستحق؟
أحسب أن اعتبارات أيديولوجية قد دعت أغلب من تناولوا الموسيقى العربية إلى التركيز على فتراتٍ تعتبر فترات اعتزاز سياسي، أي تحديدًا الفترة العباسية والفترة الأندلسية، ثم ومن نحو ربع قرنٍ تقريبًا ما سُمي بعصر النهضة في مصر، أي مرحلة الحمولي ومحمد عثمان ثم ما بعدها. وهذا قد استتبع عددًا من التشوهات النظرية في النظر إلى الموسيقى العربية كما وصلتنا، لأنه نظر يقفز فوق القرون وفوق المسافات الجغرافية.
بالطبع هنالك عدد من الباحثين الجادين الذين تناولوا أيضًا كتابات متأخرة، من صفي الدين الأرموي ومن تلاه، وذلك لاهتمامهم النظري بالنموذج الرياضي والحسابي الذي قدمته ما صار يُعرف بالمدرسة النظامية أو المنهجية. لكن مشكلة هذا التناول هو افتراض انتشار هذه المدرسة في الممارسة العملية من بلاد فارس إلى المغرب العربي، وهذا افتراض غير مُدّعم بالشواهد، بل تناقضه شواهد كثيرة.
فما أقصده هو ضرورة التنبه إلى الإشارات العملية في دراسة الفترات التي لم تصلنا منها شواهد سمعية، وملاحظة الفوارق والاختلافات والتحورات التي استمرت بالحصول والتي يمكن متابعتها بمقارنة أتباع المدرسة المنهجية بعضهم ببعض، أو بعضهم بإشارات آخرين من الموسيقيين في مناطق مختلفة. مثل هذا التنبه سيوضح حجم الفوارق ما بين التنظير والممارسة في بغداد الأرموي وبينها في شمال سوريا أو في مصر أو غيرها من البلاد حتى في فترة زمنية متقاربة ما بين القرن الثالث عشر ونهاية القرن السادس عشر.
أيضًا هنالك فترة أخرى، فائقة الغِنى، يتم إهمالها لغياب السببين آنفي الذِكر، أي أنها فترة لم تُقدم لنا نموذجًا رياضيًّا وحسابيًّا للموسيقى ولم تقدم لنا عربيًّا مصدرَ اعتزاز سياسي هي الفترة العُثمانية. هذه الفترة من مطلع القرن السادس عشر وحتى نهاية القرن التاسع عشر يجري تجاهلها عمومًا وتوصم بأنها "تركية" وأحيانًا "غجرية" وعلى أي الأحوال متغربة عن "موسيقانا الأصيلة"، من أجل أن يتم تقديم عبده الحمولي أو سيد درويش باعتبارهما مخلصين للموسيقى من هذا التأثير المنبوذ، بينما الحقيقة مغايرة تمامًا لذلك. والواقع إن هذا يلحق غبنًا بالغًا بالموسيقى الفعلية التي وصلتنا من تلك الفترة، أي إرث الموشحات (المنعوتة خطأً بالأندلسية وهي مصرية شامية) التي تعبر عن موسيقى محلية حقًا، وهي موسيقى لم تتأثر بالموسيقى البلاطية العثمانية حتى منتصف القرن التاسع عشر في مصر وقبل ذلك بقليل في الشام كما حاولت أن أوّضح في مقالةٍ منشورة في موقع الجمهورية. كما يلحق غبنًا بالغًا في رؤيتنا النظرية إلى الموسيقى المصرية الشامية لأنه يفترض التحاقها بالتنظير التُركي بينما هو غير منطبق البتة عليها، وهذا التشوه النظري يصيب مع الأسف معظم ما يتم تدريسه في إطار نظرية الموسيقى الشرقية إن لم يكن كله.
هذه الفترة من مطلع القرن السادس عشر وحتى نهاية القرن التاسع عشر يجري تجاهلها عمومًا وتوصم بأنها "تركية" وأحيانًا "غجرية" وعلى أي الأحوال متغربة عن "موسيقانا الأصيلة"
"الصدارة إذن، كالبقاء، هي للأصلح دلالةً على زمنه، لا للأقوى صوتًا أو مهارة أو علاقاتٍ اجتماعية. وهي بذلك ليست مفهومًا فنيًّا يصلح لمنح علامات التفضيل في الذائقة أو على مقياس الطرب أو الجودة الفنية" (جزء من مقدمة فادي العبد الله لكتاب "كل ده كان ليه - سردية نقدية عن الأغنية والصدارة" للباحثة "فيروز كراوية، دار ديوان، 2022).
مُنذ سنوات انفجرت موجات موسيقى الراب عربيًّا، وسيطرت على المنصات الموسيقية ووسائل التواصل الاجتماعي، وتراجع أمامها ألوان أخرى مثل البوب، ولكن بمجرد أن استقرت الموجة حتى هدأت من جديد. في رأيك ما هو سر هذا التراجع المفاجئ؟
يبدو لي أن مثل هذه الموجات تشكل دليلًا عمليًّا على نظريات الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني تيودور أدورنو حول استتباع الاقتصاد والتجارة للحركات الموسيقية، حيث يتم ابتلاع الطاقة المعارضة للسائد الموسيقي والتي كانت تشكل أساس انطلاق الموجة الجديدة داخل الإطار الإنتاجي والمالي المهيمن، وبالتالي يتم تفريغها من قدرتها على الاعتراض والابتكار والحاقها بصيغ مبسطة ومفككة قابلة للتسليع والبيع على نطاق واسع.
"فلا الإثبات يدوم، ولا المحو ينفي أثر الماضي على الحاضر، إذ كيف يمكن أن نسمع الأصوات لولا أن بعضها يمضي ويترك فينا مساحة للحدس بالآتي" (فادي العبد لله من مقدمة كتابه "في إثر الغواية"، الكتب خان، 2024).
في رأيك: ما الذي ساهم في انتشار موسيقى الراب عربيًّا رغم اختلاف اللهجات، وهل ما أحدثه الراب في الفترة السابقة يمكن أن يتم تأريخه كحدثٍ مؤثر في تاريخ الموسيقى العربية؟
أظن أنني لست أفضل من قد يتكلم عن موسيقى الراب تحديدًا، حيث إني بعيد عن متابعتها بدقة. لكنني أحسب، من موقع المراقب البعيد، إن الراب لم يؤسس، في ما أظن، انتشارًا عربيًّا، بل أسس انتشارات منفصلة في كل بلد. إذ لا أحسب أن الراب المغربي مثلًا مسموع في العراق أو الراب اللبناني في مصر أو في الخليج.
مجددًا، أظن إن رؤيتي قاصرة في الانتباه إلى ما يحمله الراب من جديد على الصعيد الموسيقي، لكنني أخمن أن العامل الأكثر تأثيرًا في الراب هو تحريره اللغة المستعملة في الأغاني من هيمنة مستوى لغوي بات قديمًا متحجرًا ومنعزلًا عن دفق الحياة اليومية وتسارع التغييرات في اللهجات وتفاوتها المناطقي أيضًا. هذا التحرر في اللفظ والفكرة والمضمون والمستوى اللغوي سينتقل بشكل أو بآخر إلى الأنماط الغنائية الأخرى وأحسب أنه سيتيح تجديد دمائها وإن على حساب الحيوية الأصلية في الراب نفسه.
- على مدار التاريخ الحديث للموسيقى العربية ارتبط تطورها بالأحداث السياسية الضخمة، وتفرّع من مشروع المؤدي/ المطرب/ الفنان ألوان عدة. كيف تفسر غياب الفنان المؤسس والمشروع المتكامل للفرد، وهو الشيء الملموس بدقة منذ بداية الألفية؟
صراحة، لا أحسب العبقرية فردية، في نهاية التحليل. أي عبقرية فردية لا بد لها من بيئة وأطر لتربيتها واستثمارها وإلا وئدت في مهدها. لا يمكن في الواقع فصل التجديد الذي ظهر مع عبده الحمولي عن علاقة مصر بالموسيقى البلاطية العثمانية وبفكرة الحفل الموسيقي الأوروبي، ولا فصل سيد درويش عن المسرح الغنائي، ولا اغفال ارتباط الأخوين رحباني بمشروع إنشاء هوية وطنية لدولة حديثة النشوء والاستقلال السياسي آنذاك هي لبنان.
سنجد مواهب فردية بديعة ممكن أن تشكل استمرارًا لفن موسيقي وتحديثًا له ليساير ذوق عصره، مثل ناظم الغزالي في العراق مثلًا. لكن المواهب الفردية هذه في حال غياب الإطار الاجتماعي الملائم لن تكون قادرة على إنتاج تغيير جذري في أسس وجماليات هذا الفن نفسه
خارج مثل هذه الأمثلة سنجد مواهب فردية بديعة ممكن أن تشكل استمرارًا لفن موسيقي وتحديثًا له ليساير ذوق عصره، مثل ناظم الغزالي في العراق مثلًا. لكن المواهب الفردية هذه في حال غياب الإطار الاجتماعي الملائم لن تكون قادرة على إنتاج تغيير جذري في أسس وجماليات هذا الفن نفسه. وأظن إن هذا ما ينقص الآن، حيث هنالك إنتاج تجاري سائد ولديه من الموارد المالية ما يسمح بابتلاع الطفرات التي تحصل خارجه، لكن دون أن تشكل تهديدًا فعليًّا لاستقراره وهيمنته. وبالمقابل ليس لدينا مشاريع اجتماعية أو فكرية كُبرى ينتج عنها تثمير المواهب في المجالات المختلفة.
"أحتاج وصفة تحنيط لأحلامي. عفونة الأحلام محالة الاحتمال. الأحلام تشاركني الغرفة، ربما هي أول ما يشيخ، أول خطوة نحو القبر.
لا أظن هذا شعرًا.
أحلم أن أكتب قصيدة حب. لا أجرؤ. لا أعرف.
الكتابة مثل الحب، مستحيل، مستحيل بإطلاق القول" (فادي العبد الله من ديوان "يؤلفنا الافتتان"، دار ملامح، 2008).
- في الشعر: تجربتك الشعرية بدأت مُبكرًّا، ولكن التعريف الأشهر لك هو ناقد موسيقي. بصفتي مطلعًا على التجربتين أوّد معرفة كيف تفرق بين لغةٍ حادة كمشرط "لغة النقد"، ولغة فضفاضة وحمَّالة أوجه لا حصر لها مثل "لغة الشعر"؟
بدأت نشر الشعر والمقالات النقدية تقريبًا في نفس الفترة، لكن تأخرت ربما في نشر كتابٍ في الموسيقى. لعل الموسيقى والنقد يتطلبان هدوءً وأناةً أكثر مما يسمح به الاندفاع الحار في المشاعر من قصيد. غير أني أحسب أن لديّ التطلب عينه في لغة النقد كما في لغة الشعر، أي محاولة أن أصيب بدقة المقصود من خلال البحث الدؤوب في ظلال الكلمات عمّا تضمره وما يمكن أن ينتج من تصادمها، ومن تسليط شعاع العيش والحياة على القاموس والمفردات لإعادة شحنها بالقدرة على تناول الحياة. هذه الدقة، في ما أحسب، هي المشترك بين مجالي كتابتي هذين. أما شعريًّا فيضاف إليها، في ما أحسب، إيمان بقدرة اللغة على المفاجأة وباحتوائها على طبقاتٍ متراكمة من المعاني والأصداء بما يكفي لإغناء الشعر بما لا يتكلف الشاعر نفسه بناءه.
"الريح التي تذرو أوراق حياتي ليست عاتيةً صرصرًا
وخسائري حتى الآن مماثلةٌ للجميع
فقط ذاكرتي العميقة، ذاكرة الجسد والروح والفكر
تضرب كل لحظة موعدًا للتَّذكُّر المسنون
لا مبرر لأصرخ أو أغرز أنيابي في العابرين
فغياب هذا الألم المتهادي كالنهر"
سيكون أشد إيلامًا وتوحُّشًا (فادي العبد الله من ديوان "البياض الباقي"، دار الجديد، 2022).
- في رأيي، الشعر خلق صافٍ لشيء لا وجود له، أو اعادة خلق لتجارب حياتية متشعبة ومتنوعة، بينما النقد يشبه إعادة تشريح جثة. بعيدًا عن المجازات، هل تشعر بأن النقد الموسيقي أو المسار المهني اقتطعا من مسيرتك الشعرية بعض القصائد؟
من الصعب افتراض ما كان ليحصل لو لم يكن الواقع واقعًا. إلا أنني أعلم أن عددًا من القصائد لم يكن ليُكتب لولا اللقاءات والمصادفات والأسفار والمشاهد التي أتاحتها لي مسارات النقد وعملي الحقوقي. يظل إن الشعر يأتي بغتةً ويفرض نفسه دون تأهبٍ، وأنّى لي إذًا أن استدعيه إن لم يرغب؟
على مدار سنواتٍ طويلة تنوعت الإصدارات، وكان أحدثها "في إثر الغواية" الصادر عن "الكتب خان" في مصر مطلع 2024، هل هناك أي تفاصيل عن عملك القادم؟
أواصل كتابة الشعر على تقطع وآمل أن ينتج عن ذلك في وقتٍ ما مجموعة شعرية جديدة. لكن الأقرب ربما إلى الصدور هما عملان؛ الأول مكتمل وأرجو أن يخرج قريبًا إلى النور عن الكتب خان، وهو يجمع عددًا من المقالات التي حاولت فيها تناول تاريخ النظريات الموسيقية العربية منذ العصر العباسي وحتى مؤتمر 1932، والإشارة فيها إلى التنوعات الفائقة داخل ما يتم أحيانًا اختزاله بتسرّع كبير وإلى التفاعلات المستمرة داخل هذه الموسيقى مع خارجها سواء كان فارسيًّا أو روميًّا/يونانيًّا أو أوروبيًّا أو عثمانيًّا، بما ينفي أية أوهام عن أصالة جوهرية متعالية عن التلاقح مع الآخرين، كما حاولت فيها إلقاء نظرة جديدة، على ما أحسب، على التناول الفلسفي لمسائل الموسيقى والإيقاع، ولعلاقتهما بالشِعر العربي العمودي.
كما أعكف حاليًّا مع الصديق عمرو البرجيسي على إتمام دراسةٍ مطولة، اشتغلنا عليها لنحو خمس سنوات حتى الآن، عن إرث الموشحات الشامية المصرية وخصائصها الموسيقية الفريدة وما يمكن لدراستها أن تمنحنا إياه من متعة جمالية ومن أفكار مختلفة عن فهم المقام والإيقاع والنبر وبنية الأعمال السابقة على التأثر بالعثمانيين والأوروبيين.