حين تصبح الصدمة روتينًا.. الفرق بين نظرة الغرب وتجربة الفلسطيني
19 سبتمبر 2025
بينما يكتشف الغرب صور الركام في غزة كما لو أنها تحدث للمرة الأولى، يقف الفلسطيني أمام المشهد بوعي مثقل بعقود من التجربة. في برلين وواشنطن ولندن وباريس، تصدح الحناجر ضد القتل، وتكتب بيانات الغضب، لكن الفلسطيني يعرف أن هذا المشهد ليس استثناءً، بل هو يوميات ممتدة منذ النكبة، مرورًا بجنين وغزة وصبرا وشاتيلا. ما يهزّ الشارع الغربي كزلزال عاطفي، نعيشه نحن كروتين دموي مستمر.
يقف الشارع الغربي اليوم مذهولًا من مشاهد الركام، كما لو أن التاريخ بدأ في أكتوبر قبل عامين، بالمقابل يعرف الفلسطيني بلحمِه الحي أن ما يحدث ليس استثنائيًا، إنما روتين يومي ممتد، لذا حين يصرخ الغربي الآن، نسمع في داخله صدى صرخاتنا الأولى، تلك التي صدحت في الانتفاضات والمجازر والحروب السابقة، ثم تبخرت بلا أثر. هذا الأمل الذي عشناه وخسرناه، ونرى الشارع الغربي اليوم، يمشي ذات المسار نحو الإحباط.
صرخنا كما يصرخون، غضبنا كما يغضبون، ملأنا الشوارع بالشعارات كما يفعلون. لكننا خرجنا من التجربة بأثقال الإحباط والخذلان والفقد.
نشفق على يقين بعض المتظاهرين بأن بأن الهتاف وحده قادر على وقف آلة استعمارية خبيرة بامتصاص الغضب. لا نقلل من شأن هذا الغضب، بل نعرف وزنه وتجربته. شهدنا من قبل كيف خرجت الملايين ضد غزو العراق ولم يتوقف، وكيف امتلأت الساحات الأوروبية بصور أطفال غزة عام 2014 ثم عاد الصمت بعد أسابيع. لكن ما يختلف اليوم أن الشارع الغربي لا يتعامل مع الأمر كمناسبة عابرة، بل كتحول عميق في وعيه السياسي والأخلاقي.
هذه المرة، تبدو المظاهرات امتدادًا لشرخ داخل المجتمعات الغربية نفسها، في الجامعات والنقابات والفنون، بمقدار ما هي مجرد رد فعل على صور الحرب الدامية أيضًا.
صدمة البدايات وإرهاق التكرار
يميّز علم النفس بين من يتلقى صدمة مفاجئة، ومن يعيش تحت وقع الضربات المتكررة. الأول ينهض غاضبًا، مقتنعًا أن صوته سيغير العالم، بينما الثاني ينهض مثقلًا، فاقدًا الثقة، محصّنًا ضد الانفعال.
الفلسطيني لم يعد يرتجف أمام الصور، لأنها أصبحت جزءًا من جلده؛ طفل غزّي ينام على صوت القصف ليس مثل طالب ألمانيّ يشاهد لأول مرة على تويتر بيتًا يُهدم فوق ساكنيه. هنا يكمن الفارق بين من يُفاجَأ بالمأساة، ومن وُلد وعاش في قلبها.
كل موجة تضامن غربي تبدأ متوهجة، صادقة في غضبها، تحمل رغبة صافية في نصرة فلسطين. غير أن صدق الشعوب غالبًا ما يرتطم ببرود حكوماتها، التي تمضي في دعم إسرائيل سياسيًا وعسكريًا
صدمة البدايات تُنتج صرخة عالية، أما إرهاق التكرار فيُنتج صمتًا عنيدًا. لهذا، ما يبدو للغربي غضبًا طارئًا، يغدو عند الفلسطيني جزءًا من معركة طويلة مع الزمن نفسه، وهي معركة لا تُقاس بصرخة واحدة، بل بالقدرة على البقاء في وجه الكارثة المتواصلة.
البُعد النفسي: من الصدمة الأولى إلى الإرهاق الجمعي
العلوم النفسية تصف عادةً الصدمة بأنها لحظة اقتحام غير متوقّعة تعصف بالوجدان وتكسر استقرار الفرد. عند الفلسطيني، لم تعد هناك "صدمة أولى"، بل سلسلة صدمات مستمرة.
دراسات عدة، مثل BMC Psychology 2024، تظهر أن الأطفال الفلسطينيين سجناء في صدمة مستمرة لا تفارقهم. لكن ما لا تقوله الدراسات بالشكل الوافي، هو أن هذا أسر الصدمة تحوّل إلى وعي جماعي جعل من الفلسطيني شاهدًا يقاوم بقدرته على النجاة والعيش، حتى حين يُسلب من أبسط حقوقه، وليس مجرد ضحية للعنف.
الأمل الذي ينهك والثورة المؤجّلة
كل موجة تضامن غربي تبدأ متوهجة، صادقة في غضبها، تحمل رغبة صافية في نصرة فلسطين. غير أن صدق الشعوب غالبًا ما يرتطم ببرود حكوماتها، التي تمضي في دعم إسرائيل سياسيًا وعسكريًا، كأن أصوات الملايين لا تُسمع. لهذا يعيش المتظاهر الغربي اليوم تجربتين متناقضتين: حرارة الشارع وإصراره من جهة، وخيبة مواجهة مؤسساته الرسمية من جهة أخرى.
أما الفلسطيني، فقد خبر هذا المسار طويلًا: خرج هو نفسه إلى الشوارع عشرات المرات، وصرخ حتى بُحّ صوته، ثم اكتشف أن العالم لا يتغير بالصرخة وحدها. لذلك لا يزدري الفلسطيني المتضامنين، بل يرى فيهم صورته الأولى، قبل أن يتيقن أن الهتاف لا يكفي إذا لم يتحول إلى اشتباك سياسي يوجع، إلى مقاطعة وضغط وكسر للتحالفات. الجزائر لم تتحرر لأن باريس بكت، بل لأنها قاومت. فيتنام لم تنتصر لأن طلاب هارفارد هتفوا، بل لأن الفلاح الفيتنامي حمل السلاح.
فجوة أخلاقية
المسألة أبعد من فجوة وجدانية، إنها فجوة أخلاقية وسياسية. الغرب ليس متفرجًا بريئًا تفاجأ بالحقيقة، بل شريك في صناعتها. واشنطن هي التي تزوّد إسرائيل بالقنابل، ولندن سعت لتقييد المظاهرات المؤيدة لغزة ووصفت رفع الأعلام الفلسطينية بالاستفزازي، وباريس حاولت حظر التظاهرات واعتقلت من رفع العلم الفلسطيني.. كلها شريكة في استمرار المجزرة. ليس مجرد فارق في الإحساس؛ نحن محبطون لأننا نعرف أن الغضب في شوارعهم لن يتحول إلى فعل سياسي إلا إذا كُسر هذا التواطؤ الرسمي.
بين الشعارات والفعل
حتى لا يُفهم ما سبق على أنه تهوين من زخم الميادين أو إنكار جرأة المبادرات. إنما هو آتِ من باب تفحّص التجربة الفلسطينية الطويلة، ومقارنتها بردود الفعل الطارئة لدى الآخرين. ومحاولة لقراءة الفارق بين مسارين، مسار الفلسطيني الذي يجرّب المأساة كظرف يومي ممتد، ومسار الآخر الذي يكتشفها فجأة فينهض غاضبًا. برأيي، هذا التباين هو من مُفَسِرات اختلاف الوعي وحدود الانفعال، لا قيمة الفعل في حد ذاته.
ويظل الاحترام للحراكات الشعبية حاضرًا، ليس كإشادة سطحية، لأنها تأتي كاعتراف صامت بقيمة الإنسان. حين تتحرك المبادرات، مثل الأساطيل البحرية المتجهة نحو غزة، نشعر بنبض التأكيد أن هناك من يرى وجوهنا، يقرّ بوجودنا، ويغامر لحمايتنا، وتعيد للفلسطيني، ولو لمشهد غير مكتمل، إحساسه بأنه ما زال يستحق أن يُنقذ.
إلا أن القيمة الأعمق لهذه الحراكات تكمن في أنها تُظهر حجم الفجوة بين صدق الشعوب وخيانة حكوماتها، وتذكّر الفلسطيني أن له حلفاء من لحم ودم، لا من بيانات دبلوماسية باردة.
ما العمل؟
قد يسأل البعض: إذا كان الفلسطيني محبطًا، والغربي متأخرًا، فما الفائدة من أي انفعال جديد؟ الجواب لا يكمن في الرفض، بل في إعادة توجيه هذا الانفعال. على الغرب أن يحوّل غضبه إلى فعل ملموس: مقاطعة، ضغط سياسي، كسر التحالفات العسكرية.
وعلى الفلسطيني أن يستثمر هذا الغضب لا كمنقذ، بل كعامل مساعد في مشروعه التحرري الطويل. ما دون ذلك، ستظل شوارع الغرب تموج بالشعارات، بينما يظل الخراب هنا شاهدًا على أنهم جاؤوا متأخرين.. وربما بلا جدوى.