في تطور لافت يسلط الضوء على إخفاقات الخطة الأميركية-الإسرائيلية لتوزيع المساعدات في قطاع غزة، أعلنت شركة "بوسطن كونسلتينغ غروب" (BCG)، وهي واحدة من أكبر شركات الاستشارات الإدارية في الولايات المتحدة، انسحابها من مشروع إغاثي كانت تديره داخل القطاع المحاصر.
وجاء القرار في وقت تتزايد فيه الانتقادات الدولية لتسييس المساعدات الإنسانية، وتحويلها إلى أداة ضغط عسكري على السكان المدنيين في غزة، حيث تحولت مراكز توزيع المساعدات إلى بؤر للعنف وساحات للاشتباك.
أعلنت شركة "بوسطن كونسلتينغ غروب" (BCG)، وهي واحدة من أكبر شركات الاستشارات الإدارية في الولايات المتحدة، انسحابها من مشروع إغاثي كانت تديره داخل القطاع المحاصر
انهيار نموذج استشاري في بيئة أمنية مغلقة
مثّل انسحاب "بوسطن كونسلتينغ غروب"، التي لعبت دورًا محوريًا في تصميم وإدارة برنامج توزيع المساعدات الغذائية في غزة، ضربة لجهود الإغاثة التي أُطلقت بدعم مباشر من الولايات المتحدة وإسرائيل. وبحسب بيان صادر عن الشركة، فقد تم تعليق النشاط الميداني ووضع أحد كبار شركائها التنفيذيين في إجازة إدارية على خلفية تحقيق داخلي، ما يعكس تعقيدات أخلاقية وإدارية رافقت سير العمل.
وجاءت هذه الخطوة بعد تزايد التوتر بين الشركة ومؤسسة "غزة الإنسانية" (GHF) التي تدير المشروع ميدانيًا، وسط اتهامات متبادلة بشأن الشفافية والفعالية. وقالت مصادر مطلعة لصحيفة "الواشنطن بوست" إن الانسحاب كشف عن صعوبة استمرار برامج تديرها جهات استشارية خاصة داخل بيئة عسكرية محكومة بالكامل من قبل الاحتلال الإسرائيلي.
مدير الإغاثة الطبية في #غزة قال إن المواطنين "يذهبون إلى مراكز المساعدات وهم يدركون أن الموت بانتظارهم".
اقرأ المزيد: https://t.co/GY6uWHUuey pic.twitter.com/oTlvQoLf8Y
— Ultra Sawt ألترا صوت (@UltraSawt) June 3, 2025
فشل في التنفيذ: استقالات، إطلاق نار، وغياب الثقة
لم ينجُ البرنامج من سلسلة انتكاسات مبكرة: استقالات لمسؤولين بارزين، رفض أممي للمشاركة، وإطلاق نارعلى المدنيين المتجهين لاستلام المساعدات. وتؤكد ثلاثة مصادر قريبة من المشروع الذي تشرف عليه مؤسسة "غزة الإنسانية" ستواجه صعوبات جمة في الاستمرار دون الدعم التقني الذي كانت تقدمه "بوسطن كونسلتينغ غروب"، خاصة وأن الأخيرة كانت مسؤولة عن تصميم منظومة التوزيع، تسعير الحصص، وإدارة العقود مع المقاولين المحليين الذين أنشأوا أربعة مراكز توزيع في جنوب القطاع.
ورغم تصريح (BCG)بأن دعمها كان "مجانيًا"، أفادت مصادر مطلعة بأن الشركة قدمت فواتير شهرية تجاوزت مليون دولار، وهو ما يثير تساؤلات حول مدى استقلالية المشروع وشفافيته.
توزيع محفوف بالمخاطر: إطلاق نار وبيانات متضاربة
في الميدان، لا تعمل سوى ثلاثة مراكز توزيع، وغالبًا لساعات محدودة صباحًا، إلى حين نفاد المواد الغذائية. وقد سُجلت عدة حوادث إطلاق نار من قبل الجيش الإسرائيلي باتجاه حشود مدنية تجمعت بالقرب من مراكز التوزيع، أسفرت عن وقوع شهداء وجرحى بالعشرات.
وفيما أعلن جيش الاحتلال عن فتح تحقيق في هذه الحوادث، نفى إطلاق النار على المدنيين مباشرة، متهمًا "حماس بنشر معلومات مضللة". بالمقابل، ادعت مؤسسة (GHF)أنها نفذت عمليات التوزيع داخل مراكزها "بأمان"، محيلة الحوادث إلى ما سمّته "خارج المنطقة الآمنة"، داعية المدنيين إلى الالتزام بالممرات المحددة.
انتهاك للحياد وشرعنة للحصار
منظمات إنسانية دولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة، أعربت عن قلقها العميق من النموذج المعتمد، كونه يقيّد عمليات الإغاثة داخل مواقع محدودة تخضع للسيطرة الإسرائيلية، بما يتعارض مع مبدأ الحياد الإنساني. واعتبرت أن المشروع يخدم أهدافًا عسكرية إسرائيلية أكثر من كونه تدخلًا إنسانيًا.
وحذّرت تقارير داخلية إسرائيلية من مخاطر الازدحام والتدافع على مراكز التوزيع، مما قد يؤدي إلى كوارث إضافية.
في هذا السياق، وصفت المديرة التنفيذية لبرنامج الأغذية العالمي، سيندي ماكين، الوضع بأنه "مأساوي"، مطالبة بوقف فوري لإطلاق النار وفتح ممرات آمنة ومستقرة للمساعدات.
في حين أكدت تقارير ميدانية تعرض قوافل مساعدات تابعة للأمم المتحدة للنهب من قبل مجموعات مسلحة قبل وصولها إلى مراكز التوزيع.
◀️ في مشهد بات يتكرر تحت الحصار والنار، اسـ ـتشـ ـهد 31 فلسطينيًا على الأقل وأصيب أكثر من 176 آخرين فجر الأحد، خلال إطلاق نار من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي على حشد من المدنيين تجمعوا قرب نقطة توزيع مساعدات غذائية في مدينة #رفح. pic.twitter.com/Alz8efQhGQ
— Ultra Sawt ألترا صوت (@UltraSawt) June 2, 2025
القيود الأمنية الإسرائيلية: عقبة رئيسية أمام وصول المساعدات
تعكس الأزمة الحالية مأزقًا مركبًا: فبينما تبرر إسرائيل تحكمها الكامل بالمساعدات بذريعة "منع وصولها لحماس"، ترى منظمات الإغاثة أن هذا التحكم يمثّل شكلًا من أشكال العقاب الجماعي ويحول المساعدات إلى أداة ضغط سياسي. وبدل أن تكون المساعدات وسيلة إنقاذ، أصبحت رهينة لحسابات عسكرية وأمنية معقّدة.
وهو ما يتجلى بوضوح في تقارير متكررة عن إطلاق نار تجاه مدنيين جائعين، ما يطرح تساؤلات جدية حول سلامة وحيادية عمليات الإغاثة.
مراكز الإغاثة تتحول إلى مصائد للموت
انسحاب "بوسطن كونسلتينغ غروب" لا يمثل نهاية دور شركة استشارية فحسب، بل يشير إلى انهيار أوسع في النموذج الذي اعتمدته إسرائيل والولايات المتحدة لتوزيع المساعدات داخل غزة. لقد تحولت مراكز الإغاثة، التي يُفترض أن تكون ملاذًا للمدنيين، إلى مصائد للموت بفعل الاستهداف العسكري، والقيود المشددة، وانعدام الضمانات الحقيقية لسلامة المدنيين.
وبات واضحًا أن إسرائيل تستخدم المساعدات كسلاح آخر في حربها، من خلال إدارة تدفقها وخلق بيئة من الفوضى والخطر في محيط مراكز التوزيع، الأمر الذي يقوّض أي جهود إنسانية جادة.
مسؤولية دولية عاجلة أمام كارثة إنسانية مفتوحة
في ظل انسحاب أحد أبرز الفاعلين في البرنامج، واستمرار الهجمات على المدنيين في مراكز التوزيع، لم يعد بالإمكان الحديث عن جهود إغاثة حقيقية في غزة. بل نحن أمام مشهد إنساني مفجع يتطلب تحركًا عاجلًا.
على المجتمع الدولي أن يرفع صوته ضد عسكرة المساعدات، ويضغط من أجل ضمانات أممية صارمة لحرية وحيادية الإغاثة، بعيدًا عن التوظيف السياسي والعسكري الذي حول الغذاء والدواء إلى أدوات حرب ضد سكان قطاع غزة.