"دارك شوكلت".. حكاية أربع نساء تجمعهن طاولة وحيدة
29 سبتمبر 2025
داخل أحد مقاهي وسط البلد، تجلس أربع صديقات حول طاولة صغيرة، يروين أربع حكايات عبر فصول العام الأربعة. قد يحمل الرقم دلالة، وربما جاء محض صدفة، حين اختار المخرج والمؤلف محمود جمال حديني كتابة مسلسل "دارك شوكلت" وعرضه عبر اليوتيوب في ثماني حلقات، ليضاعف الرقم، كما ضاعف معاناة بطلاته، كاشفًا عن زوايا جديدة ومتنوعة لم يتم التعمق فيها حين قُدم النصّ – سابقًا – في قالب مسرحي بعنوان "بيت روز" على مسرح الطليعة عام 2023.
من عرض مسرحي لمسلسل عبر اليوتيوب
يمثل المسلسل امتدادًا لنجاح العرض المسرحي الذي لاقى حينها صدى واسعًا، طوّره حديني ليضيء جوانب أخرى من حياة النساء في مصر وربما في العالم العربي. ويقول، إن النص وُضع أساسًا ليكون فيلمًا سينمائيًّا، لكنه ظلَّ طويلًا يبحث عن منتج يخرجه إلى النور، قبل أن يطول الانتظار ويقرر تحويله إلى عرض مسرحي ناجح، أعقبه لاحقًا إعلان تحويله إلى مسلسل، ليكشف من خلاله عن أبعادٍ أُخرى من معاناة النساء عبر حوار بين الصديقات الأربع (ريهام، إيمان، ليلة، رحمة).
تشاركهن الطاولة أحاديثهن، توثق مشاكلهن، وتستمع إلى آلامهن وضحكاتهن، في رحلةٍ إنسانية تتخللها مشاعر متعددة وحكايات تمس كل امرأة في الثلاثينيات من عُمرها.
قد يظن البعض أن مسلسلًا تدور أحداثه كلها حول طاولة واحدة، ربما يكون مملًا، لا يتغيّر فيه سوى ملابس البطلات التي تعكس فصول السنة من الربيع إلى الصيف، مرورًا بالخريف وانتهاءً بالشتاء. لكن حكاياتهن، التي تشبه مواسم العام، تحرك شيئًا ما بداخلك، تدفعك لأن تصنع مشاهدك بنفسك، فتدور في ذهنك أحداث وشخصيات ومواقف، يأتي الحوار أحيانًا مبكيًّا وأحيانًا أخرى مضحكًا، لتجد نفسك شريكًا في العمل، صاحب حكاية تشبه قصص بطلاته.
فحين تسمع إيمان تتحدث عن زوجها خالد، وأبنائها، ومشكلاتها مع حماتها، وكيف تبددت أحلامها بعد التخرج وتحوّلت إلى شخصيةٍ روتينية تقبل الإهانة وتتحمل الأعباء من أجل الأولاد، أو كما يُقال بالعامية "عَشان البيت ميتخربش"، ستتذكر بالتأكيد شخصية تُشببهها قابلتها يومًا ما، حتى وإن لم يدُر حديث بينكما.
تشاركهن الطاولة أحاديثهن، توثق مشاكلهن، وتستمع إلى آلامهن وضحكاتهن، في رحلةٍ إنسانية تتخللها مشاعر متعددة وحكايات تمس كل امرأة في الثلاثينيات من عُمرها
أما ريهام، فقد غيّرت التجارب القاسية ملامح شخصيتها، من زيجاتٍ فاشلة وحب لم يكتمل، لتقرر أن تختبئ خلف شاشات السوشيال ميديا، تدّعي النسوية، وتحرّض النساء على الرجال، عاكسة صورة بعيدة عن ذاتها الأولى. بينما ليلة ما زالت في انتظار الحب الذي لم يأتِ بعد، ورحمة عالقة في حبٍ قديم، تخشى أن يتكرر السيناريو نفسه وتخسر سبع سنوات أخرى من عمرها، فتصبح مشتتة بين قلبها وعقلها، لا تدري بأيهما تختار.
رحلة الإنتاج الذاتي
يأتي هذا العمل كتتويجٍ لسنواتٍ من الإصرار والكفاح خاضها حديني في مواجهة صعوبات الإنتاج، مدفوعًا برغبة في تقديم فن صادق يلامس الواقع، مؤكدًا أن تجربة الإنتاج الذاتي مُرهقة وممتعة في آنٍ واحد. يحكي أن الفكرة ظلت حبيسة الأدراج لمدة سبعة أو ثمانية أشهر تقريبًا، قرر بعدها أن يجد لها مُخرجًا حتى لا يتوقف عن الكتابة ويواصل الإبداع: "قُلت لنفسي، لمَ لا أكتبها للمسرح؟"، لافتًا إلى أنه كان قد توقف عن تقديم أعمال مسرحية جديدة لمدة ثلاث سنوات تقريبًا بعد انشغاله بمسلسل "لايف شو"، مضيفًا: "شعرت بعطلة وحشة، فكان قراري تقديمها كمسرحية هو دافع للاستمرار وعدم التوقف."
حققت المسرحية نجاحًا لافتًا آنذاك، مما أعاد إحياء الحلم من جديد: "بعد نجاح المسرحية، قررت ألا تكون فيلمًا، بل مسلسلًا، حتى يكون هناك اختلاف حقيقي بين العملين"، يوضح حديني، أن الحلقة الأولى من المسلسل هي تقريبًا نفس المسرحية، لكن ما بعدها جديد بالكامل، "باستثناء مشاهد قليلة جدًّا في الحلقتين الثانية والثالثة، وباقي الحلقات الثماني كلها جديدة."
لم تكن ولادة المسلسل سهلة، بل شهدت رحلة شاقة، استمرت بروفاتها حوالي أربعة أشهر، ثم جاء التصوير في يومين فقط، وانتهى منه في أول كانون الثاني/يناير 2024، وتفرغ للمونتاج لفترة، ثم عاد يبحث عن جهة عرض أو منصّة تتحمس للمشروع، ولم يجد، فقرر عرضه عبر اليوتيوب ليشاهده الجمهور.
كيف كتب رجل عن معاناة النساء؟
أكثر ما يميز "دارك شوكلت" هو صدق شخصياته النسائية الأربع شديدة التباين، حيث يقول حديني، إن الأمر مزيج من الملاحظة والبحث والتجارب الحياتية، عشت هذه التعقيدات ورأيتها حولي، بداية من فريق التمثيل بالجامعة، حيث كانت الفتيات يخبئن على أهلهن أنهن يمثلن. ورأيتها في تطور صديقات أعرفهن منذ 25 عامًا". ويضيف: "أحيانًا كنت أسأل نفسي أسئلة وأبحث عن إجاباتها، وهذه الإجابات كانت تتحول إلى شخصيات، فمثلًا شخصية إيمان هي نموذج أعرفه جيدًّا وقريب مني، قد تكون كل قريباتي، أما الشخصيات الأخرى فكانت تحتاج إلى سعي وبحث."
هذا البحث لم يكن سطحيًّا، فقد بدأ حديني، بالدخول إلى غروبات الفيس بوك، يقرأ شكاوى النساء، ويشاهد فيديوهات تتحدث عن معاناتهن، يضيف: "في مسلسل (لايف شو) مثلًا، اشتركت في برامج البث المباشر لأفهم هذا العالم، حتى أن بعض الممثلات شاركن في هذه البرامج كجزءٍ من التحضير، كنت أقضي ساعات في التحليل والمذاكرة بجانب الخبرة الحياتية."
الضحك في مواجهة الألم والوحدة
لماذا اختار الكتابة عن النساء؟ يجيب حديني: "لدي إحساس دائم بأن المرأة في مجتمعنا لا تأخذ حقها، والأسوأ أنها أحيانًا لا تفهم حقوقها بالكامل. لكنني أردت أن أطرح هذه الأفكار بشكلٍ مختلف، ليس بالحزن والبكاء الذي تتسم به معظم الأعمال التي تناقش قضايا المرأة، بل بالضحك. الضحك يمنحهن القوة. حتى في أقسى لحظات الهزيمة، تجدهن يضحكن. إنهن أقوى من أن يقعن في فخ الدموع."
ورغم اختلاف الحكايات الأربع، إلا أنها تلتقي في شعور واحد ترويه كل منهن بطريقتها الخاصة، الوحدة. ذلك الإحساس الذي يجمعهن على الطاولة نفسها، يحاولن التخلص منه بالفضفضة والحكي عما يعشنه، لعل الكلام يكون سبيلًا للعلاج.
يكشف العمل أن "الوحدة" هي القاسم المشترك بين الصديقات الأربع، رغم اختلاف ظروفهن: "صحيح، كل واحدة منهن وحيدة بطريقتها. إيمان وحيدة وسط عائلتها، وريهام وحيدة رغم علاقاتها، وليلة وحدتها واضحة، ربما كنت أرى أن اجتماعهن على الترابيزة (الطاولة) يلغي هذه الوحدة، إنهن يأتين إلى هذه الترابيزة لمعالجة وحدتهن في حياتهن الخاصة."
"دارك شوكلت".. ليس للنساء فقط
في النهاية، يؤكد محمود حديني أن "دارك شوكلت" ليس عملًا للنساء فقط، بل هو مرآة للمجتمع بأسره. "أتمنى أن يراه كل رجل ليعيد التفكير في طريقة تعامله مع زوجته أو أخته. العمل يتناول قضايا إنسانية عامة مثل الخوف من المستقبل، والأزمات المادية، والمسؤولية، والاستسلام. شخصية يوسف الذي تخلّى عن حبيبته وموهبته هو نموذج أعرفه ويصعب عليّ، لأنه يمثل سهولة الاستسلام والشكوى من الظروف. ما نحاول فعله هو الانتصار على هذه الظروف، وصناعة تجاربنا بأيدينا".
رغم اختلاف الحكايات الأربع، إلا أنها تلتقي في شعور واحد ترويه كل منهن بطريقتها الخاصة، الوحدة
شارك في بطولة العمل كل من: سالي سعيد في دور "ريهام"، سماح سليم في دور "إيمان"، هاجر حاتم في دور "ليلة"، ونادية حسن في دور "رحمة". معظمهن في بداية مشوارهن الفني، وهو ما أضفى على المسلسل قدرًا أكبر من المصداقية والواقعية.
تنتهي الحلقات مع قدوم فصل الشتاء واحتفالات رأس السنة، حيث تتطلع الصديقات إلى عامٍ جديد يحمل لهن أملًا في واقع أفضل. في محاولة للتحرر من حدود الطاولة الصغيرة، إذ يقررن السفر معًا إلى الإسكندرية، لوداع تلك المساحة الضيقة واحتضان عالم أوسع، مليء بالبحر والشوارع والمباني، وبالحكايات أيضًا التي تخبئها الكثير من النساء.