رحلة عبر الزمن والفن في أروقة المتحف الإسلامي بالقاهرة

في قلب القاهرة النابض، حيث تتشابك الأزقة القديمة مع صروح التاريخ، وتعانق الجغرافيا عبق الأصالة، وعلى مقربة من جامع ابن طولون العريق، الذي يتجاوز عمره 1150 عامًا، وبخطوات قليلة من مسجد محمد علي، ابن الـ 17 قرنًا، ذات الطراز الرائع، وحيث ترفع قلعة صلاح الدين الأيوبي رأسها شامخة، مناطحة عنان السماء، هناك يقف متحف الفن الإسلامي، كلوحة فنية نابضة بالحياة، يتنفس فيها الزائر عبق التاريخ وروح الحضارة الإسلامية.

منذ اللحظة التي تطأ فيها قدماك أرض المتحف المرتفعة، تشعر وكأنك في رحلة مكوكية على جناح السرعة، حيث تلتقي العصور في صرح واحد، وداخل بوتقة جامعة، فهنا أكبر متحف إسلامي في العالم، يضم أكثر من عشرة آلاف قطعة أثرية

في كل زاوية من زواياه هناك حكاية يجب أن تُروى، قصة حضارة امتدت على مدى قرون، من الأمويين مرورًا بالعباسيين والأيوبيين والمماليك وصولاً إلى العثمانيين، هنا، الزمن ليس مجرد رقم، بل إحساس ملموس يتجسد في كل جدار وزخرفة ونقش.

يُعد متحف الفن الإسلامي بالقاهرة مسرحًا استعراضيًا لحضارات العالم القديم، يضم مجموعات فنية متنوعة تمثل الحضارات الإسلامية المختلفة، من الهند والصين وإيران، مرورًا بفنون الجزيرة العربية والشام ومصر وشمال إفريقيا والأندلس.

منذ اللحظة التي تطأ فيها قدماك أرض المتحف المرتفعة، تشعر وكأنك في رحلة مكوكية على جناح السرعة، حيث تلتقي العصور في صرح واحد، وداخل بوتقة جامعة

145 عامًا من الشموخ

تعود فكرة إنشاء هذا الصرح العظيم إلى عام 1869م في عهد الخديوي إسماعيل، حين اقترح المهندس سالزمان جمع التحف الفنية الإسلامية في مكان واحد، لتكون شاهدة على عبقرية الفنانين وصناع الحضارة، وهو المقترح الذي لاقى ترحيبًا ودعمًا من الخديوي.

وبعد قرابة عشرة سنوات من الإعداد دخل المقترح حيز التنفيذ الفعلي عام 1880 كمبنى صغير بجامع الحاكم بأمر الله في شارع المعز، بوسط القاهرة، تحت اسم "المتحف العربي"، لكن مع مرور الوقت كثرت المقتنيات التي ما عاد هذا المبنى الصغير على استيعابها، حيث بلغ عدد التحف المجمعة وقتها 111 قطعة أثرية، فاختير موقع أخر، أكثر اتساعًا، بالقرب من ميدان باب الخلق، وتم بناء الصرح الحالي الذي افتتحه الخديوي عباس حلمي الثاني في 28 كانون الأول/ديسمبر عام 1903، ثم أُطلق عليه اسم "متحف الفن الإسلامي" عام 1951، ليعكس اتساع رقعة المقتنيات وفخامة محتوياته.

خضع المتحف لعدة عمليات تطوير بين عامي 1982 و1983، تضمنت إضافة حديقة متحفية مع باب جانبي يؤدي إليها، وإنشاء قاعة للمكتبة، إضافة إلى قاعة للأطفال، وقاعة أخرى خصصت لعرض مجموعة النسيج والسجاد.

تضرر المتحف على أثر حادث تفجير مبنى مديرية أمن القاهرة عام 2014م، وقد تم تجديده وافتتاحه عام 2017م بعد إجراء بعض التحديثات عليه ليعود مجددًا إلى بريقه المعتاد والإقبال الجماهيري

تزاوج التاريخ بالفن

يمزج المتحف بين عبق التاريخ ورونق الفن في بوتقة واحدة، فمع دخولك الطابق الأول، تبدأ الجولة بين القاعات الزمنية، حيث لكل عصر قاعاته المخصصة: قاعة الأمويين، حيث المصاحف الأولى المكتوبة على رق الغزال، وزخارف الخط الكوفي البسيط؛ ثم قاعة العباسيين، التي تعكس ازدهار العلوم والفنون في بغداد؛ قاعات المماليك والعثمانيين، حيث السيوف المزخرفة والمجوهرات الرائعة والسجاد الفاخر.

وتمثل كل قطعة أثرية في المتحف مرآة عاكسة لأحد مظاهر الحضارة الإسلامية، فهذه آلات الجراحة والحجامة التي استخدمها الأطباء في العصور الوسطى، وتلك أدوات الفلك والهندسة التي جسدت عبقرية العلماء المسلمين.

وفي القلب منها الزجاج والخزف العثماني، والسجاد الإيراني والتركي الذي يروي قصص المدن البعيدة، فكل تفصيلة تحمل رسالة، وكل نقش يحكي تاريخًا.

ومع صعود الطابق الثاني، يستشعر الزائر بأنه في عالم آخر، حيث مخازن الآثار وقسم الترميم، والتي تحتوي على لوحات فنية مُبهرة، حيث يُعيد الخبراء إحياء القطع المتضررة بعناية فائقة، هذا بخلاف واحدة من أكبر المكاتب في العالم الإسلامي، مكتبة ضخمة تضم 13 ألف كتاب ومخطوطات بلغات تركية وفارسية وإنجليزية وألمانية وإيطالية، لتكون مصدرًا للباحثين من مختلف أنحاء العالم.

كنوز لا تقدر بثمن

العشرات من المقتنيات التي يحتضنها المتحف تأسر قلوب المارة، أبرزها محراب السيدة رقية الفاطمية، المصنوع بين 1154 و1160 ميلادية، بنقوشه الكوفية المورقة وزخارفه النباتية والهندسية المعقدة، وأقدم مصحف أموي على رق الغزال، المزخرف بعناية، والذي يعد وثيقة نادرة لتطور الخط العربي وأساليب التدوين في العصر الأموي.

وللرموز المقدسة حضور طاغي داخل تلك البوتقة الرائعة، مثل مفتاح الكعبة المشرفة المطلي بالذهب والفضة باسم السلطان الأشرف زين الدين شعبان، أو العملات المعدنية والأوزان والأختام والنياشين والقلائد التي توثق حياة الشعوب الإسلامية عبر العصور.

كغيره من معظم المعالم الأثرية المصرية، يقف متحف الفن الإسلامي في مواجهة تهديد الإهمال، رغم إرثه التاريخي العميق وقيمته الفريدة

ويتمتع المتحف بالثراء الحضاري الجغرافي البراق للفن الإسلامي، إذ يحتوي على تحف ومقتنيات من الصين إلى الهند، ومن الأندلس إلى الشام، مرورًا بمصر والجزيرة العربية، وكل قاعة تحكي حكاية خاصة، تجمع بين المكان والزمان، بين الجغرافيا والفن، ومن هنا، يصبح المتحف أكثر من مجرد مكان للعرض؛ إنه جامعة حية للفنون الإسلامية، وملتقى للدارسين والباحثين من مختلف أنحاء العالم.

شبح الإهمال يُطل برأسه

كغيره من معظم المعالم الأثرية المصرية، يقف متحف الفن الإسلامي في مواجهة تهديد الإهمال، رغم إرثه التاريخي العميق وقيمته الفريدة. تتناثر داخله كنوز الحضارة الإسلامية، شاهدة على قرون من الإبداع والفن، لكنها تنتظر اليوم أن تحظى بالعناية الرسمية، وسط مطالب متزايدة للحفاظ على هذا الصرح الذي يروي تاريخًا يمتد من الأمويين إلى العثمانيين.

وعند انتهاء جولتك، وخروجك من أبواب المتحف، ستبقى الصور والزخارف محفورة في ذهن كل من وطأت أقدامه ثرى هذا الطراز الفريد، فكل محراب، كل مصحف، كل قطعة أثرية، لوحة فنية متحركة، وصوت الحضارة الإسلامية الخالدة، لها من الأثر ما يبقيها عالقة في الأذهان من الصعب نسيانها. 

في الأخير يبقى متحف الفن الإسلامي شاهد عيان على إبداع ورقي قلما يجود الزمان به، فما يحتضنه ليس مجرد مقتنيات أثرية، بل نبض حضارة خالدة، وحكايات صاغها الزمن بأنامل الفنانين والعلماء المسلمين على لوحة تتلاقى فوق خيوطها كافة العصور، وتتكلم الجدران والقطع والزخارف لغة الإبداع والروعة.