غادرنا أمس المخرج الجزائري الكبير محمد الأخضر حامينة (1934 – 2025)، عن عمر ناهز 91 عامًا، تاركًا سلسلة من الأفلام تظل علامة فارقة في تاريخ السينما العربية: "رياح الأوراس" (1966)؛ "وقائع سنين الجمر" (1975)؛ "رياح الرمال" (1982)؛ "اللقطة الأخيرة" (1986).
عقب سنوات دراسته الأولية، انتقل الشاب محمد الأخضر حامينة المولود في ولاية المسيلة إلى ولاية بومرداس (شرقي العاصمة الجزائرية) لدراسة أساسيات الصناعة، قبل أن تحمله قدماه إلى ولاية قالمة (شمال شرق العاصمة الجزائرية) لدراسة الزراعة والفلاحة. وذلك قبل أن ينتقل إلى فرنسا لدراسة القانون. وبعد شهرين فقط من التجنيد الإجباري في صفوف الجيش الفرنسي، يتمكن الرجل من الهروب واللجوء إلى تونس، حيث عمل في وزارة الإعلام التابعة للحكومة الجزائرية المؤقتة في نهاية الخمسينيات.
عقب سنوات دراسته الأولية، انتقل الشاب محمد الأخضر حامينة المولود في ولاية المسيلة إلى ولاية بومرداس (شرقي العاصمة الجزائرية) لدراسة أساسيات الصناعة
أرسلته الحكومة المؤقتة إلى دراسة السينما في "المعهد الوطني للسينما" في براغ و"أستوديوهات باراندوف". وعند عودته إلى الجزائر قام بتصوير سلسلة من الأفلام الوثائقية التي تتناول معارك الجيش الوطني ضد الاستعمار الفرنسي. كما ساهم في تأسيس "ديوان الأخبار الجزائرية" عام 1963، ليتولى إداراته حتى عام 1974.
كان فيلمه "رياح الأوراس" (1966) يشبه اللبنة الأساسية في مشروعه السينمائي، حيث مفردات البيئة حاضرة بقوة ورسوخ. وذلك من خلال قصة لإحدى الأُسر الجزائرية التي عانت ويلات الاستعمار، فالأب وجد حاله مشتتًا في يومه بين توفير قوت اليوم في الصباح ومساعدة الجيش الوطني ضد الاستعمار. لفت هذا العمل الأنظار إليه، باعتباره مخرجًا يحمل مفردات فلكلورية تنبع من البيئة وفي الوقت ذاته لا تنفصم عن مجريات الحياة اليومية وتبعات الحروب والسياسة. أما فيلمه اللاحق "وقائع سنين الجمر" (1975)، فقد أصبح واحدًا من أيقونات السينما العربية، عندما حصد للمرة الأولى والأخيرة إلى يومنا هذا جائزة السعفة الذهبية لمهرجان كان السينمائي الدولي.
يقول الناقد السينمائي إبراهيم العريس عنه (السينما والمجتمع في الوطن العربي: القاموس النقدي للأفلام): "ولعل أهم ما يُمكن ذِكره في هذا السياق أن "وقائع سنين الجمر" اعتُبر، من خلال عرضه وفوزه في "كان" نوعًا من "الثأر" للثقافة الجزائرية من البلد الذي كان مستعمرًا للجزائر: فرنسا، ففوز من هذا النوع وفي عقر دار البلد الكولونيالي الذي لم تكد تمضي 13 سنة، عند ذاك، على مبارحته الجزائر، وهو يحمل بالضرورة تلك المعاني. ومع هذا لم يفت البعض أن يهاجم الفيلم باعتباره "ممالئًا لفرنسا"، وأن يقول إن هذه الممالأة كانت سبب فوزه. وكانت حجة البعض أن الفيلم، فيما يتحدث عن مسار الثورة الجزائرية، توقف طويلًا عند التناقضات في صفوف الجزائريين أنفسهم!".
وبعيدًا عن ذلك السِجال الطويل الذي دار في أروقة المهرجان وصُناع السينما حينها وخصوصًا في الجزائر، فإن "العريس" يرى أن "إنه كان فيلمًا جميلًا أيضًا، عابقًا بلغة سينمائية متميزة، وبقدرة على جعل الكاميرا تتسلل إلى داخل الأحداث فتصور جمالها: جمال البيئة، والجموع، والملابس، والطبيعة، من دون أي تضخيم احتفالي". فعلى الرغم من موضوع الفيلم الذي يتناول أمرًا بارزًا وخطيرًا، حيث الثورة التي تتوهج شرارتها على مهل بين الأفراد، فإنه قدَّم مزاوجة حميدة بين جدية المضمون وجمالية الصورة.
مع الوقت، تصبح مسئولية حمل جائزة بحجم السعفة الذهبية، حاجزًا عاليًّا من الصعب تجاوزه. لكن "حامينة" لا يستسلم، فيعود في فيلمه "رياح الرمال" (1982) إلى عوالم القرية من جديد. يحفر عميقًا في القرية وجذورها، كهؤلاء الذين تمطر الرياح أغوارهم فيعملوا على التخلص منها لإعادة الحياة إلى البيوت والزرع من جديد. حكاية تتماهى مع المجتمع الذكوري الذي يُعلي من قيمة الصبي على الإناث حتى لو كان مشلولًا.
وعلى الرغم من قسوة الأجواء ووعرة الصحراء، فإن "حامينة" يعود إلى خلطته الأسيرة، عبر المزج بين مفردات البيئة وعاداتها ومجريات حياة الشخوص الذين يتماهون معها. كما أن هذه القرية، تواجه صعوبات متكررة عندما تزحف الرمال في كل مرة لتغطي الأغوار، مما يضطر الأهالي إلى الانطلاق في رحلة سيزيفية للتخلص من الرمال وإعادة الحياة إلى البيوت والزرع من جديد.
يعرف "حامينة" في كل مشروع له، كيف يغوص في أعماق الصحراء ليخرج بحكايةٍ جديدةٍ؛ يطرح من خلالها وجه نظره في الحياة والحُب والسُلطة والعلاقة بين الماضي والحاضر. ففي فيلمه "اللقطة الأخيرة" (1986)، نعود بالتاريخ إلى أجواء قُبيل الحرب العالمية الثانية وتحديدًا سنة 1939. حكاية بسيطة تدور حول صبي صغير يكن مشاعر عاطفية تجاه مدرسته التي تنتقل مؤخرًا من العاصمة إلى إحدى القرى. لكننا نكتشف عبر الأحداث، هذا الصدام بين تقاليد المدينة والقرية.
في العام 2014، عاد "حامينة" بفيلم "غروب الظلال" والذي تتماهى أحداثه مع النضال الجزائري ضد المستعمر الفرنسي، حيث يطالب الجنرال أحد جنوده بإعدام جزائري يطالب الحرية. ويعتقد الصراع طوال الفيلم إلى أن نصل إلى المصير المجهول للجندي الذي يهرب إلى الصحراء الحارقة، بعد أن رفض تنفيذ الحكم.
يعتقد "حامينة" أن الارتجال جزء أصيل في العمل لا ينفصم عنه، فعندما سأله الناقد السينمائي سمير نصري (النهار، 7/7/1986) عن الخطة المسبقة للعمل، أجابه: "آتي إلى مكان التصوير برؤية عامة ثم أرتجل. كذلك للحوار: أعرف ما ستقوله الشخصيات، إنما أترك لكل ممثل حرية اختيار الكلمات التي يرتاح إليها، ونعيد بناء الجُمل بعضها ببعض".
عُرف عن "حامينة" أن يعتز بنفسه وبقيمة أفلامه، لكن البعض كان يتهمه أحيانًا بالغرور والتعالي والنرجسية أما هو فقال عن نفسه (النهار، 5/11/1984): "عندما يُقال لي أنت "أكبر مخرج عربي" أشعر بأنها إغاظة، وتبدو لي الجملة كيدًا. أنا مخرج فقط ولا غير، وإذا أردت تصنيفي أجبتك على المخرج العربي أن يكون عربيًّا ليكون عالميًّا".