سنة بدون مقالات إلياس خوري
16 سبتمبر 2025
بعد سنة من غيابه، أدركنا أن مقالات إلياس خوري كانت حدثًا لا تعليقًا على الحدث فقط، وبتنا نرى حياتنا ناقصة، وكأنَّ بين كل ما نشتهي ونحتاج هناك غياب لا يُعوَّض: مقال أسبوعي.
كان نصّه يأتي، كل أسبوع، مثل إنذار أو نبوءة أو صرخة. يعيد ترتيب الوقائع لنفهم حجم عنفها، ويعالج اللغة المستهلكة والمتعبة من خلال كيّها بنار الحياة، حتى ترتعش العبارة وتنبض الفكرة.
علّمتنا تلك التجربة أن المقال ليس مجرد موعد مهني يلتزم به الكاتب في الموعد المضروب مع جمهوره، بل هو عهد أخلاقيّ يتجدد مع كل مقال، ومنصة تُستدعى إليها السلطة والمجتمع والأحلام من أجل المساءلة.
في عزّ أوقات الأمل أو اليأس، أطلّ ليؤكد أن الكتابة فعل مقاومة يومي يرفض الركون إلى الصمت ويأبى الاستسلام للنسيان، ولهذا يتدخل في النقاش العام كي يفضح ضجيج الدعايات الكاذبة، ويحافظ على البعد الإنساني في السياسة، وهذا ما حوّل مقالاته من ردود فعل عابرة إلى دفاتر يوميات توثّق حياة المنطقة، وتمنحنا رؤية أسبوعية تؤكّد على حقنا في التكلم والنقد.
لم يكن الانتظام والمواظبة ما منح هذه النصوص قوتها، بل اللغة نفسها. فكل مقال عند إلياس خوري اللغة هو مختبر لإعادة اكتشاف أسرار الكلمات، وفحص قدرتها على مواجهة الرعب والخذلان، والتحقق من جاهزيتها لمقاومة العجز.
تقاطعت في مقالات إلياس خوري شبكات من التاريخ والجغرافيا والبشر، جعلت من فلسطين ولبنان وسوريا والعراق والأردن سرديةً واحدة
صار مقاله قطعة أدبية بقدر ما هو موقف سياسي، حيث تُصبح النصوص أفعالًا أخلاقية لا تقل عن كونها تعبيرًا جماليًا.
تقاطعت في مقالاته شبكات من التاريخ والجغرافيا والبشر، جعلت من فلسطين ولبنان وسوريا والعراق والأردن سرديةً واحدة، كلمة السر فيها هي فلسطين، ويتشكل جسدها من المأساة السورية، والخراب السياسي اللبناني، وانكسارات العراق الطويلة.
انشغل إلياس خوري بفلسطين وسوريا ولبنان، ورأى فيها مرايا متقابلة. فلم تكن النكبة الفلسطينية إلا راهنًا حاضرًا، ولهذا كتب: "النكبة أمامنا". أما مأساة سوريا فلم يقرأها كحرب مجنونة وحسب، بل رآها قاموسًا للغدر والخيانة والتخلي، تمامًا كما رأى مأساة فلسطين وتفكك لبنان.
بهذا المعنى، كان كل مقال فصلًا في رواية طويلة عن المشرق العربي، رواية مفتوحة تكاد لا تنتهي، ترويها شهرزاد منا وفينا، وفي كلامها يتشابك السياسي بالرفض والاحتجاج، والذاكرة بروح المكان وأهله، والأمل بأن الحياة استحقاق لا منّة.
أصر على أن معارك التحرر تتقاطع على الرغم من اختلاف ساحاتها. وبتلك النظرة المتحررة من أسر المحلية رأى أن ما يجري حولنا ليس استثناءً، بل هو أقرب إلى موجات متتالية في تاريخ الظلم والمقاومة.
برعَ في استدخال ألمه الشخصي في متن الألم الجماعي، وكأن ما يعانيه الجسد ليس سوى حصة الفرد من الجرح الجماعي المفتوح على نزيف يشارك فيه الجميع، لأنّ الفردي لا يُفهم إلا في امتداده العمومي والجمعي. كتب في مقاله "عام من الألم": "في حياتنا اليومية العادية، علينا أن نبحث عن المعنى. أما في حياة الألم فعلينا أن نصنع المعنى". وبرأيه أنه لن يصنع المعنى أفضل ممن ذاقوا كميات لا تنتهي من الألم.
وهكذا تحوّلت مقالاته إلى تمرين على تحويل ما لا يُطاق إلى لغة، وكأن الكتابة تماهٍ للتجربة الشخصية مع الشعور الجمعي، لأنها الصرخة التي تُستخرج من جوف الصمت الطويل لتقول إن حقنا في الحياة مقدّس.
تدفقت المقالات كنهر جار، مؤكدةً أن الصحافة يمكن أن تكون أدبًا، وأن الأدب حين ينخرط في الصحافة يمنحها أبعادًا جديدة، وبهذه المزاوجة النادرة أصبح مقاله الأسبوعي فصلًا في مشروعه الأدبي الكبير، لا ملحقًا به، أو هامشًا عليه.
سنة واحدة من دون هذه المقالات تكفي لندرك حجم الفقد، فكل مقال بمثابة معركة صغيرة مع البُنى الكبرى للقهر: الاستبداد والاستعمار والطائفية والارتهان. ولكون الكتابة، في جوهرها، فعل مقاومة ضد إملاءات العجز التي يحاول الجميع فرضها علينا، لم يعد تحويل التجربة الفردية إلى ذاكرة جماعية مجرّد استعارة أدبية، بل شرطًا أساسيًّا للبقاء، لأن الحكاية حين تُروى تُصبح أفقًا إنسانيًّا يكسر العزلة ويجعل الألم قابلًا للتشارك.