1. قول

سياحة الأنقاض

3 يناير 2025
(فيسبوك) مبان مهدمة في مخيم اليرموك بدمشق
رائد وحش رائد وحش

أُعِدّ نفسي، وأَعِدُّها كذلك، بمواجهة قاسية قريبة في سوريا. ومن بين أكثر ما أنتظره الآن هو اضطراري إلى الذهاب إلى الأنقاض بحثًا عن عالمي القديم الذي صار ركامًا.

بسرعة كبيرة، تشكّلت في سوريا ما بعد الأسد ظاهرة جديدة يمكن تسميتها بـ"سياحة الأنقاض"، حيث يذهب الناس ليس من أجل الاستمتاع بالأماكن الجديدة أو لاكتشاف المعالم، بل ليحاولوا، ربما عبثًا، جمع ما يكفي من شظايا منازلهم وذكرياتهم لترميم صور الماضي، في مسعى من الحزن والحسرة.

رأينا، خلال حكم النظام السابق، زياراتٍ مشابهة إلى أماكن مدمرة، إذ تسلّل البعض سرًّا إلى منازلهم المهدّمة، وكما هو الحال دومًا منعهم الخوف من الحديث علنًا وحُصر الأمر في دوائر صغيرة، أو في فيديوهات للإعلام الرسمي قالوا فيها الكلام الذي لا يريدون قوله. ورغم ذلك، ظهرت مشاهد لأناس يرفعون حجارة منازلهم بحثًا عن صورة أو غرض قديم!

بعد سقوط الأسد، ومع عودة أعداد أكبر إلى الوطن الذي طالما حلموا باستعادته، يفاجئ الواقع الجميع: منازلهم أطلال وأحياء طفولتهم أكوام من الأنقاض. وهنا يحارون عاطفيًّا وعقليًّا في اعتبار هذا عودةً أم مرحلة أعلى من مراحل الاغتراب؟

باختصار، سياحة الأنقاض تعني أنّ هناك شعبًا كاملًا يقف على الأطلال.

تصلح "سياحة الأنقاض" لأن تغدو رمزًا للمرحلة الانتقالية، ففيها جهدٌ جماعيّ لاكتشاف المفقود وتقبّل الخراب الكبير، ومحاولات لا نهائية للبحث عن بداية جديدة بين الركام والرماد

من عجائب المشهد المأساوي أن يعيش كثير من هؤلاء العائدين في فنادق، متحولين إلى زوّار في بلادهم. وبذلك تتسع الغربة التي ظنوا أنها ستتلاشى بمجرد أن يطأوا أرض بلادهم. يرغمنا هذا الواقع على سؤال فلسفي: ما الوطن إن لم يكن مكانًا وما المكان إن لم يكن موجودًا؟ إلى أي شيء يعود العائدون؟ إذا كانت فكرة العودة تقوم على ترميم الذات بالمعاني الباقية في البيت، ألا يعدنا هذا بمزيد من التمزق والتشظي؟

تعكس سياحة الأنقاض أزمة هوية جماعية لشعب كامل. الباقون يحاولون التآلف مع مشهد الفناء المروع بوصفه جزءًا من حياتهم، والعائدون المذهولون من كل شيء يصطدمون بهذا الدمار كما بالدمار اللامرئي في البناء والنفوس والمزاج العام، ويدخل الجميع في مواجهات حادة مع أفكارهم التي تبدو بسيطة عن آثار سياسات القمع والاستباحة والحقد التي حولت سوريا إلى أكوام وأكوام من الإسمنت والغبار.

في حالة مشابهة، وقف الأدب الألماني في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية في موقف مشابه، وخرج من هذا جيل من الكتّاب عُرف نتاجهم باسم "أدب الأنقاض"، وفيه أطلقوا مشاعر الفقد، وتأملوا في الانهيار النفسي والجسدي لبلادهم. ولاحقًا وصل الخطاب العام الذي اشترك فيه الأدباء والفلاسفة والمؤرخون والسياسيون إلى فكرة الذنب الجماعي، خاصة مع أفكار كارل ياسبرز التي رأت أن الشعب الألماني يتحمل مسؤولية أخلاقية عن الجرائم النازية، بغض النظر عن مدى التورط الفردي فيها.

إذا كان الشعب الألماني يرى نفسه "شعبًا من الجناة" فإن الشعب السوري ينظر إلى نفسه بوصفه "شعبًا من الضحايا"، وإذا كان شعب الجناة احتاج إلى التطهر الجماعي فإن شعب الضحايا يحتاج إلى التعافي وإعادة بناء الحياة.

أثناء تأملي في هذه التساؤلات، قادتني الأفكار إلى أسئلة لا مفر منها: هل السوريون أقل ذنبًا من الألمان في ما يتعلق بنظامهم؟ هل السوريون مجرد ضحايا لدكتاتوريتهم في حين أن الألمان مساهمون في دكتاتوريتهم؟ إلى أي مدى يمكن اعتبار الشعوب "مذنبة" لمشاركتها في نظام استبداديّ، حتى لو اقتصر ذلك على الصمت بنيّة الحفاظ على حياتهم؟ كيف يمكننا أخذ الاختلافات الأيديولوجية بين النظام النازي والنظام السوري بعين الاعتبار؟

ما من إجابات سهلة أو مريحة، لكنني أقترح التفكير فيها لأنها ستساعدنا في عملية شفائنا إذا تجرأنا على طرحها، على أنفسنا على الأقل.

تصلح "سياحة الأنقاض" لأن تغدو رمزًا للمرحلة الانتقالية، ففيها جهدٌ جماعيّ لاكتشاف المفقود وتقبّل الخراب الكبير، ومحاولات لا نهائية للبحث عن بداية جديدة بين الركام والرماد، تمامًا كما فعل شعراء الجاهلية الذين عوّضوا بأبياتهم الرمزية بيوتًا دارسة. وها نحن ذا في المصير ذاته الذي وجدوا أنفسهم فيه وعبّروا عنه في معلقاتهم. مثلهم بتنا مضطرين إلى جعل الأطلال التي تعني النهاية مُفتتحًا ومبتدأ لقصيدة تُنشئ من موت المكان دورةَ حياةٍ جديدة.

كلمات مفتاحية
البرهان والسيسي

سقوط الفاشر وتبدّل الحسابات المصرية: من الحياد المضبوط إلى الانخراط الإجباري

باتت رؤية مصر تجاه السودان محكومة بمعادلات أمنية حساسة (منصة إكس)

كوليج دو فرانس

"كوليج دو فرانس" إذ ينقلب على نفسه

أن يلغي "كوليج دو فرانس"، مؤتمرًا عن فلسطين مع المركز العربي للأبحاث تحت ضغط لوبيات يمينية وإسرائيلية، فهذا خبر يستحق التوقف

محمد عبد الكريم

هل تعرفون عازف بزق عربيًا اسمه محمد عبد الكريم؟

حلمتُ مرةً أن عازفًا سوريًا اسمه محمد عبد الكريم

هومایون إرشادي
أفلام

هومایون إرشادي: فلسفة الصمت في السينما الإيرانية

بدأ حياته المهنية كحكاية غنائية في فيلم. جالسًا خلف مقود سيارة، يلتفت إليه مخرج أفلام شهير، مأخوذ بملامحه ونظرات عينيه التي تشي برجل عاش ألف حياة

متظاهرات سودانيات
سياق متصل

الحرب في السودان: مجلس حقوق الإنسان يبحث إرسال بعثة لتقصّي الحقائق حول الانتهاكات في الفاشر

عقد مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، اليوم الجمعة، جلسة خاصة بشأن الوضع في الفاشر بالسودان

 مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ (كوب - 30)
الترا لايت

التضليل المناخي: كيف تعرقل الشركات الكبرى تقدم مفاوضات المناخ؟

استهل المفاوضون أعمال مؤتمر الأمم المتحدة الثلاثين لتغير المناخ (كوب 30) في مدينة بيليم البرازيلية، بتحذير قوي من تصاعد حملات التضليل المناخي

صونيا
فنون

صونيا.. عنقاء المسرح الجزائري

نشأت صونيا مكيو في بيئة طبيعية كبقية أبناء جيلها، ذلك الجيل الذي شهد تحولات تاريخية هامة، من حركات التحرر والاستقلال إلى مرحلة البناء