"خرجنا إذن من دمشقَ كما يخرجُ الظفر". كان هذا مطلع قصيدة كتبتُها حين فقدتُ الأمل من رؤية دمشق بعد اقتلاعنا منها اقتلاعًا خاطفًا ومؤلمًا ونهائيًا. لم يكن أيّ فعلٍ حقيقيّ ممكنًا بالنسبة إليّ. حتّى الأمل كان مؤلمًا وعبثيًّا. كان إعلانُ الهزيمة هو الفعل الوحيد الذي يمكن أن يقارب انسدادًا سياسيًّا وانكسارًا عسكريًّا وانحسارًا مدنيًّا. وانتقلت دمشقُ من مدينة عشقٍ ثوريّ وأمل بالتغيير إلى ذكرى أليمة عن اعتقالات لأصدقائي في شوارعها، وعن قبور لأحبّائي، وبدأت أنقم عليها وعلى ذاتي، ثم بدأت أشطب صورها من ذاكرتي، وأطمس بالسواد خيالات شوارعها وأسماء أحيائها.
مع نهاية شهر تشرين الثاني/نوفمبر، وانطلاق عمليّة "ردع العدوان" العسكرية من إدلب إلى حلب بدأتُ أستعيد أملي، ولكنني لم أثق بصدقه وحقيقيّته، فصرتُ أختبره. لم أنم إلا ساعات محدودة طوال أيام التحرير. كنت أريد أن أرى لحظة السقوط. لم أرد أن يسقط وأنا نائم. ومع كلّ يوم صرتُ أحيا من جديدٍ مع كل قرية ومدينة تتحرّر، وقبل دخول الثوار إلى حماة، صرتُ أرسل رسائل إلى أصدقائي لأقول لهم: "راس السنة بالشام". لم يصدّقني أحد يومها، ولم أصدّق نفسي أيضًا، ولكنّني فعلتُها، وفعلها السوريّون الذين صمدوا داخل سوريا تحت سطوة التوحّش الأسديّ وخارجها في الخيام ودول اللجوء والبرد والنفي والعنصريّة والفقد والحزن.
بعد قرابة الثلاثة عشر عامًا دخلتُ دمشق، وأصرّيتُ على الذهاب إليها من الطريق ذاته، مرورًا بإسطنبول، فعمّان ثم درعا. حجزت تذكرة طيران باتجاه واحد، تركتُ برلين على وجه السرعة، خرجتُ منها دون أن أرتّب سريري، تركتُ كلّ شيء وانطلقت في رحلة الثلاثين ساعة إلى دمشق.
يستحق السوريون اليوم خطابًا واضحًا وإعلانًا شفّافًا لخارطة طريق توضّح فيها السلطة الجدول الزمني للمرحلة القادمة
لم تختلف دمشقُ كثيرًا، إلّا أنها أكثر بردًا وظلمة. يحصل أهلها على الكهرباء لساعة واحدة كل اثنتي عشر ساعة. وهذا بالضرورة لا يكفي لشحن الهواتف والبطاريّات وتسخين الماء. الاستحمام ترفٌ، وغلاء الأسعار فاحش، والفقر عميق. يحتاج الفرد لأربعمئة دولار في الشهر بينما مرتب الموظف الشهري ٢٠ دولارًا!
كانت الأيام الأولى بعد سقوط الأسد مربكة للغاية، إذ تبخّرت قوات النظام بطريقة غريبة. مشيت في الشوارع دون حواجز ونقاط تفتيش. الطريق من درعا إلى دمشق سالك وهادئ. سيارات ومدرعات عسكرية معطلة أو متفحمّة على جانبي الطريق، رايات النظام وصور الأسد ممزقة أينما كانت. في دمشق، حدثنا شرطي مرور عن ليلة السقوط إذ اتصل به العميد قبل ساعات من إعلان سقوط النظام: "ارمِ سلاحك في الشارع واذهب إلى بيتك"، فترك دراجته النارية وعصا المرور، ورمى سلاحه وذهب. صار سائق تكسي.
كمية السلاح المسروق من مراكز الشرطة والأمن كبيرة. أعرف شخصًا سرق بزة ماهر الأسد العسكرية من قصره، تلك التي كان يهددنا بها أنصاره: "ماهر شلح البيجاما ولبس البدلة العسكرية". كثيرون سرقوا الوقود من سيارات القصر، أو لنقل استردّوه بطريقة غير مشروعة. أما أنا فتوجّهت إلى مخيم اليرموك لأرى ما كان فلسطين الصغرى ولأرى بيتي وغرفتي وذكرياتي، ولكنني لم أرَ إلّا خرابًا ودمارًا لن يتعافى منه المخيم قريبًا.
بعد شهر على هروب الأسد نعيش في سوريا مشاعر مختلطة. ما زلت أستمع أكثر مما أتحدث، وما زلت أحاول استيعاب كل ما يجري حولي. ثمة همّ ثقيل زال عن أكتافنا، وثمّة خوف على مستقبل بلدٍ أنهكه الظلم والقهر. أسئلة المواطنة والحريات العامة والفردية والسياسية والصحافية وحقوق الإنسان والعدالة الانتقالية ومحاسبة المجرمين ما زالت مفتوحة، وسلطة الأمر الواقع تطمئن الجميع إلا المواطن السوري، والقصر الرئاسي استقبل القاصي والداني إلا السياسيين السوريين، وحكومة تسيير الأعمال تتخبّط لعدم كفاءتها، فلا هي تريد إشراك الآخرين ليتعاون الجميع على البناء، ولا تتوقف عن لعبة جس النبض لفرض توجهات أصحابها، ثم تحتمي من النقد بمقولة "نحتاج وقتًا، والأولوية للأمن والأمان، ضرورات ومقتضيات المرحلة". يتجلى هذا في التعيينات التي شملت وزير العدل، ومسؤولة المرأة، ووزير الصحة، ووزير التربية والناطق الرسمي باسم الحكومة ومحافظ دمشق وآخرين. صارت مقولة "طاسة باردة طاسة سخنة" عنوان المرحلة في أحاديث كثير من الدمشقيين في المقاهي، وهي مقاربة طريفة لحالنا وتلقينا مع قرارات الحكومة المؤقتة.
لا يحتاج الأمر إلى جهابذة في الرياضيات والفيزياء لمعرفة أن يدًا واحدة لا تستطيع حمل أكثر من بطيخة، لكنّ أيادي السوريين ممدودة، فإن كانت سلطة الأمر الواقع لا تثق بالسوريين لإشراكهم في مصير البلد، فكيف نثق بها؟ تمثّل السلطة أن أصحابها تغيّروا وأصبحوا أكثر اعتدالاً، ونمثّل أننا نصدقهم، لأننا نريد أن نصدقهم، ونتمنى لو أنهم فعلاً قد خرجوا من فكر فصيل مسلّح إلى مشروع دولة تليق بحلم السوريين الذين دفعوا فاتورة كاملة ولن يقبلوا أن يفطروا على بصلة.
ثمّة تلاعب لغوي تمارسه السلطة "المؤقتة" بخطابها وكأنّ عُجمة ما قد أصابته، أو كأن شيئًا ما منه قد ضاع في الترجمة، كمقولة الدولة المدنية الشرعية، والحكومة الشاملة، ولجنة الخبراء… إلخ قد تطمئن البعض إن تُرجِمت إلى لغات أخرى، ولكنها بالعربيّة ضبابية ولا يمكن أخذها كضمانة، خاصة مع إصرار الإدارة المؤقتة على التعامل مع أفراد لا تكتلات وأحزاب وتيارات، وبالتالي قد تكون هذه بداية شمولية جديدة. كذلك الحديث عن تمثيل كافة مكونات الشعب السوري، وهذا، باعتقادي، بشكله الحالي فخّ لغوي، فالقضية لم تكن يومًا قضية تمثيل "مكونات" وإلا لرضينا بمجلس الشعب السوري أيام النظام الذي كان يمثل جميع مكونات الشعب السوري وطوائفه ومناطقه وفنانيه وتجاره وعماله وصناعييه ومطبليه ومزمريه، ولكنّه كان مؤلّفًا من مصفّقين للسلطة.
لذلك، قد ينسى البعض أن التعددية والتنوع لا يعنيان فقط توجهات دينية وخلفيات مناطقية، إنما أيضًا أحزابًا سياسيّة وتيارات فكرية. من جهة أخرى، يرى الشرع أن المعارضة السياسية قد انتهى دورها بسقوط النظام، وهذا مؤشر شمولي خطير كذلك، فوجود المعارضة السياسية هو جزء من وجود وهوية الدولة، والمعارضة تصبح سلطة والسلطة تصبح معارضة عبر التداول السلمي، وهي جزء من حيويّة الشعب وفعله السياسي والرقابي والثقافي والوطني.
يستحق السوريون اليوم خطابًا واضحًا وإعلانًا شفّافًا لخارطة طريق توضّح فيها السلطة الجدول الزمني للمرحلة القادمة، تبدأ مثلًا بهيئة حكم انتقالية في بداية آذار/مارس، وهيئة تمثيليّة توافقيّة لوضع دستور خلال فترة محددة، بالتزامن مع ورشات عمل ولقاءات وحوارات على المستوى الوطني. إذ يبدو أن هناك استخفافًا بما نحن عليه اليوم وهو تأسيس الدولة السورية مجددًا بعد أكثر من قرن على تأسيسها الأول. يحتاج السوريون لتصور واضح للمساءلة والمحاسبة ومصير المفقودين والمعتقلين. يحتاج السوريون إلى وعود واضحة بحرية الأحزاب والصحافة وضمان الحريات العامة والفردية، وبالضرورة يجب أن تكون في جميع أنحاء سوريا، لا في فقاعة دمشق وحسب. عند لقائي بأحد عناصر الأمن العام القادم من إدلب، والذي ينتمي إلى فصيل "أحرار الشام": "أنتم محظوظون في دمشق، فقد وصلكم أحمد الشرع بينما بقي الجولاني لدينا في إدلب".
قد تبدو نظرة شخص مثلي غاب عن سوريا قرابة الثلاثة عشر عامًا غير شائعة إلا بين فئة معينة. لامستُ هذا في حديثي مع والدي والناس في الشوارع، فالناس أكثر تفاؤلاً وبحاجة لأن يرتاحوا قليلاً، ولكننا في الوقت ذاته ورغم التعب والإرهاق والتفقير والتجهيل أمام شعب نسي الصمت والخنوع، وبات يتحدّث في كل شيء دون ترهيب الأفرع الأمنية، ولن يرضى بأقل مما حلم به، إلا بوطن يليق بنا ونليق به لا تقتلع فيه أظفار أطفالنا ولا نقتلع منه كما اقتُلعنا ذات مرّة.