لا ليؤرّخ، بل ليبقى، حمل عبود بطّاح هاتفه وبدأ يروي، من موقع من لا خيار له سوى أن يُشهر الحياة في وجه الموت. قالها بصوته الرهيف وابتسامته التي تسبق القصف: "أنا هنا". وعلّمنا أن الرعب، مهما اشتدّ، لا يستطيع انتزاع فكرة الإنسان الأخيرة عن نفسه؛ أنه يستحق أن يكون إنسانًا.
"أقوى مراسل في العالم"، هكذا يريد أن يبدو، وعلينا أن نصدّقه لأن العبارة البريئة تعبير عن محاولة صادقة من فتى يتشبّث بدور أكبر من حجمه، وأكبر من هاتفه. فالمراسل، في خيال عبود، ليس من يحمل الكاميرا فحسب، بل من يقف وسط الخراب ويقول شيئًا قبل أن ينقطع البث أو يسقط السقف.
لم يولد عبود فقط في غزة. بل وُلد داخل منطقة رمادية لا تحمل أي شبه مع أي تعريف ممكن للطفولة والمراهقة. لم يُعطَ فرصة ليعيش طفولة، ولم يُسمح له بأن ينضج بهدوء. فلا يُطلب من الطفل في الأحوال العادية أن يفهم كل شيء، أو يتخذ قرارات أكبر من عقله. إلا أنه في غزة لا وقت لذلك. فالطفولة هناك لا تملك "حقّ التأجيل" للقلق، والمعرفة القاسية، والخوف من الموت.
وبهذا المعنى، لم يكن عبود حالة استثنائية، إنما امتدادًا لجيلٍ يُولد تحت القصف ويكبر على أصوات الطائرات، ويكتشف العالم من خلال أخبار الاجتياح بدلًا من التعلم واللعب. لا تمرّ عليه عطلة بلا صيف بلا جثث، ولا يكتمل منام إلا وتمزّقه أصوات القذائف. ولعله في العمر الذي يسأل فيه الأطفال عن الامتحانات أو الشوكولا، كان يسأل: "هل هذا صوت طيارة أم مدفع؟".
أن تضحك تحت طائرات الـF–16، أن ترفع الموبايل لتُري وجهك للعالم لا لتودّعه، أن تسخر من الدبابة وأنت بلا درع؛ هذا نضالٌ أمميّ يُخاض من فوق الركام، دفاعًا عن حقّ أطفال العالم في أن ينجوا، في الزمن القادم
هو عنوان لجيلٍ تلقى تعريفات الحياة من رائحة الدخان في الحي، ومن فقدان الأصدقاء والجيران. جيل تعلّم التفكير النقدي من الموت والحصار، ولهذا لا يعملون على توثيق الحرب بمقدار ما يريدون منعها من أن تصبح عادية.
اعتُقل عبود عدة مرات خلال اجتياحات إسرائيلية لمستشفى كمال عدوان. في الاعتقال الأول، صدمه أن يرى جنديًا إسرائيليًا من مسافة قريبة. علّق تعليقًا قاسيًا: "عندما رأيت الدبابة، أصابني يأس يكفيني لعشرين سنة مقبلة". أما في الاعتقال الثاني فنُقل إلى منطقة قريبة من السياج الفاصل عند حدود القطاع. قُيّد وشُتم وضُرب، لأنّ أحد الجنود تعرّف عليه، ورغم أنه خرج من التجربة حيًّا، إلا أنه بات يدرك أن ما يفعله لم يعد مجرد "محتوى"، بل مقاومة لها ثمن.
تدرّجت صورة الفلسطيني من لاجئ يحمل مفتاحًا، إلى فدائي ممسك بزناد البندقية، وصولًا إلى كونه ضحية عليها رقم في حرب الإبادة. لكن عبود يقدم ملامح الفلسطيني الجديد: جسد يعيش الإبادة ويصوّرها، يقاوم بالبقاء لا بالخطابة. لا تمثّله السلطة ولا بيانات الفصائل، بل البحر الذي صار عنده الحد الأخير للفقد وللنجاة معًا، فهو يردد دائمًا: "على الأقل.. لا يزال هناك بحر."
إنه الفلسطيني الذي يجتمع على محوه ترامب ونتنياهو وبن غفير وسموتريتش، دون أن يملك تمثيلًا. ليس لديه سوى لغته، وهاتفه. ومع ذلك يقف في هيئة فتى ليؤدي وظيفته الكبرى في زمن الإبادة: أن يظهر، أن يقول، أن يبقى.
لاجئ بلا خيمة، فدائي بلا بندقية، ضحية بلا تأبين، وقربان بلا مذبح. لا أحد يُمثّله، لا قانون يحميه، لا ميناء ينتظره، ولا سفينة تعيده.
وفي عالمٍ تآلف مع موت الفلسطيني، يجرؤ عبود على أداء فعل بسيط لكنه راديكالي: أن يعيش.
أن تضحك تحت طائرات الـF–16، أن ترفع الموبايل لتُري وجهك للعالم لا لتودّعه، أن تسخر من الدبابة وأنت بلا درع؛ هذا نضالٌ أمميّ يُخاض من فوق الركام، دفاعًا عن حقّ أطفال العالم في أن ينجوا، في الزمن القادم.
وإذا كُتب لغزة أن تُروى ذات يوم، فلن تبدأ الرواية من صفقة أو مؤتمر أو نص في قانون، بل من طفلٍ وقف على سطحٍ مقصوف، ورفع هاتفًا مشروخًا، وقال ببساطة وحكمة: "على الأقل.. لا يزال هناك بحر."
شاهد يقول ما لا يستطيع العالم تحمّله: الفلسطينيون هنا ولديهم من العناد ما يكفي ليبقوا أحياءً.