غلاف الكتاب العربي.. من إبداع الخطّاطين إلى القوالب الرقمية الجاهزة
22 سبتمبر 2025
يُعدّ الخط العربي انعكاسًا واضحًا لتطور الذوق العربي على مدار القرون. وقد ارتبط على نحوٍ وثيق بواحدة من أبرز الصناعات الثقافية في عالمنا العربي منذ زمنٍ بعيد، ألا وهي صناعة الكتاب. فقد حمل هذا الخط باتجاهاته ومشاربه المتنوعة ومدارسه المختلفة خصوصية حضارية قلّما نجد مرادفًا لها في ثقافاتٍ أُخرى. فلم تعد مهمته قاصرة على نقل الأفكار والمعاني عبر عدد من السطور، بل تخطى ذلك إلى أن أصبح بمثابة قيمة جمالية مضافة لا تخطئها العين. وأصبح الخط العربي معيارًا لازدهار أشكال الفنون الأُخرى وتطورها من دولة إلى أُخرى. وهكذا تحرر من كونه مجرد نمط مرسوم إلى كيانٍ جمالي له فلسفته الخاصة وسماته التي تستقي عناصرها من البيئة المحيطة.
يخبرنا المؤرخ د. خالد عزب (كتاب: ديوان الخط العربي في مصر) بأن كتاب "الفهرست" لابن النديم، قدّم لنا خالد بن أبي الهياج، باعتباره أول من كتب المصاحف في الصدر الأول ووُصف بحُسن الخط. وقد كان كاتبًا للوليد ابن عبد الملك (86 – 89 هـ/705 – 715م)، حيث كتب له الأشعار والحِكم والأخبار والمصاحف. وكان عمر بن عبد العزيز قد اطلع على نماذج من أعماله المخطوطة، فأُعجب بها وطلب منه أن يخط له مصحفًا أنيقًا. ولدينا الكثير من أ سماء الخطّاطين مثل قبطة المحرر في العصر الأموي والضحّاك بن عجلان في العصر العبّاسي. وقد ظلّ الخط العربي يتطور ويترقى على يد خطّاطين ماهرين إلى أن وصل إلى رئاسة الوزير أبي علي محمد بن علي بن مقلة ثم أبي الحسن علي بن هلال المعروف بابن البوّاب أو بابن السَّتَري.
مرّ الخط العربي بتطورات ملحوظة عبر السنوات اللاحقة سواء في بغداد أو الشام أو مصر. وفي الربع الأول من القرن العشرين، شهدت مصر عام 1922 افتتاح مدرسة لتعليم الخطوط، قبل أن يُلحق بها قسم للتذهيب والزخرفة. وقد بدأت تلك المدرسة في استقطاب عدد من الخطّاطين الأتراك لتعليم جماليات الخط المختلفة والمتنوعة.
تزيين غلاف الكتاب بالخطوط الأنيقة، كان ملمحًا واضحًا عقب الاتجاه إلى طباعة الكُتب في العالم العربي. ومن بين الذي عُرفوا مُبكرًّا في هذا المجال، محمد حسني البابا والد الفنانتين (سعاد حسني ونجاة الصغيرة) والذي بدأ في تعلّم أساسيات الخط العربي على يد الخطّاط التركي يوسف أفندي رسا؛ الذي حضر إلى دمشق لكتابة خطوط المسجد الأموي عام 1877، قبل أن يحضر إلى مصر ويواصل تعلّم الخط على يد الشيخ محمد الجمل. وقد تجلّت موهبته في مجالاتٍ شتى مثل الطباعة والحفر واللوحات الفنية. كما تقلد مناصب عدة في الدولة وكان من بين الذين عملوا على زخرفة كسوة الكعبة. وفي عام 1964، قام بإرسال مجموعة من اللوحات الفنية المخطوطة التي عملها عليها بناءً على طلب من أكاديمية الفنون بكندا. فقررت اللجنة منحه لقلب الدكتوراه الفخرية بالإجماع بعد انبهار أعضائها بمستوى الخطوط والتركيبات التي شاهدوها في أربع لوحاتٍ فقط من أعماله.
تزيين غلاف الكتاب بالخطوط الأنيقة، كان ملمحًا واضحًا عقب الاتجاه إلى طباعة الكُتب في العالم العربي
لا يمكن الحديث عن الخطّاطين ودورهم في صناعة أغلفة الكُتب العربية دون الحديث عن سيد إبراهيم أو عميد الخط العربي كما كان يُلّقب. بدأ احتكاكه بالخط العربي منذ طفولته عندما كان يشاهد الخطّاط محمد أفندي والذي عمل في ورشة أخويه محمد تاجر الرخام وأحمد المثّال المعروف. درس سيد الخط العربي في الأزهر الشريف على يد أساتذة من تركيا ومصر. كان مولعًا بتقليد أعمال الخطّاط محمد مؤنس زاده صاحب النهضة المصرية في الخط العربي. كما أن تشجيع الشيخ مصطفى الغر له وهو أحد شيوخ الأزهر الأجلاء، كان له أبلغ الأثر في تقدمه وحرصه على إتقان الخط العربي وإجادته. ومن الخط العربي انطلق سيد إلى آفاق الأدب العربي، حيث شجّعه أستاذه الشيخ كمال الدين القاوقجي على قراءة كتب التراث والمعلقات وغيرها من الأعمال التي من شأنها إثراء موهبته الفنية. وهكذا تنوعت إبداعات الرجل في الخطوط من كتابة الإعلانات إلى عناوين الصحف والمجلات ويافطات المحلات التجارية وأغلفة الكتب. فهو الذي خطّ عناوين: الأهرام والهلال والبلاغ والمصور واللطائف المصورة وغيرها الكثير. كما أنّ غلاف كتاب "كليلة ودمنة" – طبعة دار المعارف –والذي خطّه، يُعدّ إحدى التُحف الفنية الخالدة.
اليوم في ظلّ التطور التكنولوجي الرهيب الذي نشهده، اختفت على نحوٍ ملحوظ أعمال الخطّاطين من أغلفة الكُتب، وتم تعويض ذلك بالخطوط الرقمية الجاهزة اختزالًا للوقت والمجهود
يبرز اسم محمد إبراهيم كواحدٍ من ألمع الخطّاطين الذين لعبوا دورًا مؤثرًا في هذا المجال. إنه الخطّاط السكندري الذي التحق بمدرسة تحسين الخطوط الملكية عام 1929، وتتلمذ على يد كبار الخطّاطين مثل: الشيخ محمد عبد العزيز الرفاعي ونجيب هواويني إلى أن حصل على دبلوم الخطوط، وكان ترتيبه الأول على القُطر المصري عام 1933. وبعد رحلة طويلة من الصبر وتذليل الصعاب، تمكن من إنشاء مدرسة لتحسين الخطوط في الإسكندرية بمساندة الدكتور طه حسين، لتكون ثاني مدرسة من نوعها في القُطر المصري. اعتاد أن يقيم معرضًا سنويًّا للخط العربي كتقليدٍ فريد في ذلك العهد، بل تحوّلت المدرسة التي أنشأها إلى نواةٍ تخرجت فيها العديد من المواهب. من يطالع غلاف الكتاب النادر الذي أنجز خطوط غلافه عن فنان الشعب الشيخ سيد درويش، يدرك حجم الموهبة التي تمتع بها هذا الخطّاط.
اليوم في ظلّ التطور التكنولوجي الرهيب الذي نشهده، اختفت على نحوٍ ملحوظ أعمال الخطّاطين من أغلفة الكُتب، وتم تعويض ذلك بالخطوط الرقمية الجاهزة اختزالًا للوقت والمجهود. صحيح أن بعض الفنانين حتى فتراتٍ قريبة كانوا يستخدمون الخطوط اليدوية مثل: محيي الدين اللبّاد أو علي عاصي أو نجاح طاهر، لكنّها تظلّ محاولات فردية محدودة وسط سيل من الخطوط الجاهزة. وربما يستدعي ذلك سؤالًا جماليًّا حول القيمة التي يضيفها الخط اليدوي إلى الغلاف النهائي. فكثير من القُراء يرون جمالية خاصة في الخطوط اليدوية المصنوعة بأناقة وانسيابية بدرجةٍ تفوق الخطوط الديجيتال. فيبدو أن هناك تفاعلًا شعوريًّا خاصًا ينشأ بين القارئ وبين تموجات الخطوط اليدوية والتي تشعره بحالةٍ من الأصالة والجمال الوجداني التي يفتقدها في ظلّ وجود الخط المرقمن.
الآن، لم يعد الأمر يقتصر على الخطوط الجاهزة بل يمكن للقارئ أن يتخيّل وجود منصّات ومواقع تتيح للمصمم استخدام أي خط على نحوٍ مجاني لمراتٍ معدودة. وهناك مواقع أخرى تتيح للمصمم أن يعرف نوع الخط الذي يبحث عنه لمجرد أنه شاهده في إحدى الصور على حاسوبه الشخصي، ولا نعرف ما الذي يُمكن أن ينجزه الذكاء الاصطناعي في هذا الشأن خلال المستقبل القريب!