"فرنسا لأهلها".. سوريون يعودون إلى بلدهم نهائيًا بعد سنوات من اللجوء
29 سبتمبر 2025
يقطع متعبون ومنكوبون مسافات مهولة بين الغابات والبحار والقارات أملًا باللجوء إلى بلدان أكثر أمانًا وتقديسًا للحريات والحقوق الإنسانية، ويواجهون بعد ذلك مشقات طلب اللجوء وصعابه إلى اللحظة التي يحظى بها اللاجئ بحياة مستقرة من ناحية الأوراق القانونية والدعم المادي والحقوقي والإغاثي، والتمكين في التعليم وسوق العمل، وفي وقت يشمل ذلك آلاف السوريين ممن قدموا إلى فرنسا خلال العقد الأخير، إلا أن العديد منهم قرّر العودة النهائية إلى بلده، بعد سنوات تأسيس واستقرار في فرنسا.
رصد "الترا صوت" العديد من الحالات التي قدّم فيها لاجئون سوريون طلبات لإلغاء لجوئهم إلى الحكومة الفرنسية، والعودة الطوعية النهائية إلى بلدهم، رغم سماح السلطات في فرنسا للاجئ السوري زيارة بلده، على عكس العديد من الدول الأوروبية، التي تسقط صفة اللجوء عن حاملها، بمجرد عودته إلى بلده الأم.
أجرى "الترا صوت" مقابلات مع سوريين عادوا أو قرروا العودة إلى بلدهم بموجب العودة الطوعية النهائية، وبحث معهم أسبابهم
وكانت وزارة الداخلية الفرنسية سمحت في شباط/فبراير هذا العام، للاجئين السوريين في فرنسا، وبشكل استثنائي، بالتقدم للحصول على تصاريح تمكنهم من العودة المؤقتة إلى بلدهم الأم من دون فقدان حقوقهم القانونية، قد تشمل الأسباب المبررة للزيارة "دوافع إنسانية" تتيح التواصل مع أفراد العائلة، أو التحقق من ممتلكات تركت في سوريا، ولا يدخل في ذلك الدوافع السياحية أو التجارية أو المهنية.
القوانين تمنع عادة المستفيدين من الحماية الدولية في فرنسا من السفر إلى بلدانهم الأم، لكن الوزارة أكدت أن الوضع "الجديد" بعد سقوط نظام الأسد في سوريا، يبرر توسيع تعريف الدوافع الإنسانية، ليشمل ما يسمى "العودة الاستكشافية".
ووفق التعميم الصادر عن الداخلية الفرنسية، يصدر تصريح خاص لهذه الرحلات، تصل مدته إلى ثلاثة أشهر كحد أقصى، ويمكن تقديم طلب الحصول على هذا التصريح لدى الإدارة المحلية في مكان إقامة المستفيد من الحماية، ويلزم هذا الطلب تقديم وثائق تثبت الحاجة الملحة لزيارة سوريا.
وتواصل "الترا صوت" مع سوريين تمكّنوا من زيارة بلدهم والعودة إلى فرنسا بموجب هذا القرار، وأكدوا سهولة الإجراءات، ما يطرح تساؤلات عن دوافع لاجئين سوريين عادوا نهائيًا إلى بلدهم، رغم إمكانية الزيارة المؤقتة لسوريا، والعودة بسلاسة إلى مكان لجوئهم في فرنسا، حيث أقاموا لسنوات هناك، تعلّموا لغة البلاد، ودرس أبناؤهم في المدارس والجامعات الفرنسية، وأسسوا لتكون بيوتهم مجهزة ومخدّمة بشكل كافٍ.
كما أجرى "الترا صوت" مقابلات مع سوريين عادوا أو قرروا العودة إلى بلدهم بموجب العودة الطوعية النهائية، وبحث معهم أسبابهم، التي تشاركت وتشابهت كثيرًا بين عدد من العوائل السورية، بعضها اجتماعي وبعضها ديني وأخرى ثقافية واقتصادية.
ولاحظنا أثناء إعداد هذا التقرير بوجود ضبابية حول كيفية التقديم على العودة الطوعية، تمثلت بعشرات المنشورات والاستشارات التي رصدناها لأشخاص يستفسرون عبر مواقع التواصل الاجتماعي عن الطريقة، لا سيما أن البعض منهم أكّد أن حتى موظفي المراكز الاجتماعية ممن يعملون على تيسير معاملات اللاجئين بموجب وظائفهم، لا يملكون المعلومات الكافية للتقديم بطلب إلغاء اللجوء والعودة للبلد الأم، لأنه قلّة ما يقومون بمثل هذه المعاملات للاجئين، وفقًا لتجارب سوريين بهذا الخصوص.
"بناتي يكبرون"
يروي أحد السوريين لـ"الترا صوت" عاد من مدينة ليموج الفرنسية لبلده وإلى مدينة إدلب على وجه الخصوص بشكل نهائي، أن الإجراءات كانت سريعة ومنجزة خلال 30 يومًا فقط كان مغادرًا البلاد إلى سوريا، مؤكدًا أن قراره صائب للغاية وأن بلده جميل جدًا والعيش فيه مريح، لا سيما أنه بأموال قدمتها له الحكومة الفرنسية (7500 يورو) دعمًا لعودته، اشترى آليات عمارة في سوريا، وبدأ العمل هو وأبناؤه فيها.
ورغم حلم العديد من السوريين الحصول على الوضع القانوني الذي يملكه في فرنسا، ممن ينتظرون منذ أشهر قرار قبول لجوئهم دون إجابة لليوم، إلا أنه فضّل العودة النهائية "لأن فرنسا بلد الكآبة والغربة والوحدة، وعندي بناتي يكبرون الآن، وأخاف عليهم من الأوساط الاجتماعية في المدارس، بلدنا أفضل بألف مرة".
ويشاركه الرأي أبو سامي وهو أب لخمس بنات يسكن في قرية فرنسية صغيرة، أن فرنسا غير ملائمة لمبادئه الدينية والثقافية، خصوصًا مع حرصه على تربية بناته تربية "محافظة"، وأنه لولا وضعه المادي السيء إلى حد ما، كان سيغادر فرنسا نهائيًا فور سقوط النظام، لكن الأوضاع الاقتصادية المتردية في سوريا، هي ما يمنعه حاليًا من اتخاذ قرار العودة النهائية، "أنا أعمل حاليًا، وأتأمل خلال الفترة المقبلة أن أجمع مبلغًا من المال، يؤمن لي حياة كريمة بعد عودتي لبلدي".
"فرنسا لأهلها"
بين المصاعب المادية والمخاوف الأخلاقية يغادر العديد من السوريين فرنسا إلى بلدهم، لكن ثقافة المجتمع وصعوبات تعلم اللغة، إضافة إلى قوانين الحكومة ونظام توزيع العمل والفرص، أيضًا يمكن أن يكون ضمن الأسباب التي دفعت لاجئين إلى إلغاء لجوئهم والعودة إلى سوريا.
يتحدث خليل إلى "الترا صوت"، عن نيته مغادرة مدينة بوردو الفرنسية إلى سوريا مع نهاية العام الدراسي الحالي، ويشرح "نحمل شهادات عليا أنا وزوجتي، لكن مشوار تعلم اللغة الفرنسية كان طويلًا، كنا نعمل في بلدنا ومرتاحين ماديًا، نساعد غيرنا بلا مقابل، لكننا هنا أصبحنا نحن عالة ونتلقى المعونات المالية من الحكومة، فرنسا تهيئ اللاجئ للمهن الحرة اليدوية، مهما بلغت شهاداتنا فإن فرنسا لأهلها، الطريق طويل لنكون أنفسنا هنا، سنعود إلى سوريا هذا أفضل لي ولزوجتي".
يقدر عدد من يتمتعون بوضع اللاجئ السياسي السوري في فرنسا، بحوالي 45 ألف شخص
وعن أبنائه، يشرح خليل "بدأ أطفالي يفقدون الهوية العربية، يتحدثون مع بعضهم باللغة الفرنسية حتى في المنزل، نحاول أنا ووالدتهم تعليمهم القرآن والكتابة بالعربية، إلا أنها مقتصرة على بعض الدروس، أبنائي لا يرغبون بالعودة إلى سوريا لكنهم قصّر ونحن أعلم بمصلحتهم، ولدينا أولوية تعليمهم ثقافة بلدهم وأخلاق دينهم".
من جهته، يقول زياد وهو سوري يسكن مدينة روان الفرنسية لـ"الترا صوت"، إنه عانى من العنصرية والتمييز في فرنسا على مدار سنوات، عرقل ذلك حصوله على عمل مناسب له، وأثّر على استكمال إجراءات لم الشمل لزوجته، "هناك أوكرانيون بدأوا العمل فور وصولهم وقبل أن يتمكنوا من إتقان اللغة الفرنسية، أنا باحث عن عمل منذ 3 سنوات ولم أحظ بأي فرصة إلى الآن، فضلًا عن الحياة الاجتماعية المعدمة هنا، الحياة هنا مرض واكتئاب، لذلك قررت العودة النهائية".
ووفقًا للقوانين الفرنسية، يمكن للاجئ أو المستفيد من الحماية الفرعية التخلي عن اللجوء، الذي حصل عليه من الأوفبرا (المكتب الفرنسي لحماية اللاجئين وعديمي الجنسية)، في "لم تعد أسباب طلب لجوئك موجودة، وتغير الوضع بالنسبة لك ولعائلتك، ويمكنك أن تكون بأمان في بلدك الأصلي ويُمكنك العودة إليه بأمان"، وفقًا لمذكرة معلومات أوردتها الأوفبرا عبر موقعها الرسمي.
ويصل الفار من أهوال الحرب في بلده إلى برّ الأمان محملًا بأحلام كثيرة وطموحات، إلى جانب سنوات من الخبرة في مجالات مهنية وشهادات علمية ربما، طامعًا بتأسيس حياة كريمة من الصفر، ينعم في طريقه إليها بعلاقات اجتماعية كالتي كانت تؤنسه في بلده، وبتجارب ومعارف جديدة يكتشفها، لكن هذا ما لا يتحقق في كثير من الأحيان، عندما يصطدم بواقع بلاد اللجوء الذي يجّره إلى العمل بمهن يدوية لم يمارسها من قبل، وبوحدة لم يتوقع عيشها أبدًا، فضلًا عن بيروقراطية مقيتة.
ويقدر عدد من يتمتعون بوضع اللاجئ السياسي السوري في فرنسا، بحوالي 45 ألف شخص، غالبيتهم فروا مع تفاقم الحرب في سوريا منذ انطلاق الثورة السورية عام 2011.