1. ثقافة
  2. أدب

قصائد "أستل خنجرك وأتربص بجسدي".. أناشيد الوحدة والانتظار

28 سبتمبر 2025
غلاف الكتاب (دار العين)
غلاف الكتاب (دار العين)
شيرين عبد العزيز شيرين عبد العزيز

في ديوان "أستلُّ خنجركَ وأتربّصُ بجسدي" للشاعر ريبر يوسف (دار العين، 2025)، تقيّدنا مرتِّلةُ المقاطع الشعرية، وتربّي فينا الحزنَ كما يُربّى وحشٌ برّيٌ: بحذرٍ وصلابةٍ وشيء من الحبّ.

ثمانون مقطعًا شعريًا، بل ثمانون موّالًا يتقطّر من قلبها المُريد الذي تنهشه الوحدة في فضاءٍ لا يسع حزنه، إثر عودة الفَرَس من دون الفارس المنتَظر إلى فناء الدار.

(الشهر 39)

"(...) تُفقأ نظراتي في عينَي الفَرَس، أُوثِقُ شَعْري بشَعْرها، أقولُ لها: لِمَ عُدتِ بمفردكِ؟ (...)" 

هكذا ينسلُّ الشاعر ومنذ الصفحة الأولى بهدوءٍ من نصوصه، ويفسح المجال للمنتظِرة بوحدتها وحزنها وأنينها وهي ترسم شهور الانتظار على جسدها بخنجر حبيبها الذي لم يعد. تكتب في كل شهر خلاصة ما قاسته وما عاشته مع الفَرس والطيور والبئر وشجر التين والفانوس المعلّق على الحائط، يدندنون معها قصائدها حينًا، وأغانٍ من الفلكلور الكرديّ حينًا آخر، فتغدو النصوص كلها مدوّنات أنوثة متروّية، تراقب وتبكي وتنتظر، ثم تنفض الوحشة عن جسدها بتراتيل شعرية كما لو أنها وسيلة البقاء الوحيدة. 

(الشهر 46)

"الشجرةُ أضمِّدُها، كاملَ الشجرة، بثوبي. كذلك الفَرَس 

وطيورٍ لم تتحدَّث بعد. أشقُّ اللَّيلَ بخنجركَ، أنظرُ عبرَ ذلكَ

الثُّقْبِ إلى نفسي، هل تنالُ الطُّمْأنينةَ منِّي؟ على سريرٍ يُنجِزُهُ

الظلام وينساهُ، عاريةً أتمدَّدُ، أغوِي نفسي بذَكرِ الحَسْرةِ الفَتيّ.

هل نَجَوتَ؟" 

يذكّرنا مشهد عودة الفرس وحيدةً من دون الفارس بحكايات وأغانٍ شعبية، مثل عودة فرس كليب بعد مقتله، أو عودة فرَسَي دوريش عفدي وأخيه سعدون في إحدى روايات الحكاية الشعبية الكردية (دوريش وعدوله) وحيدتين بعد معركة دامية، فتركض أمهما إلى فناء الدار حافيةً وهي تزغرد إثر سماع وقع الحوافر، لكنها تمرّغ نفسها في التراب وهي تئنّ وتشدو بمواويل الفقد والأسى على ولديها، وتحفر بأظافرها قبرَين لهما، بعد أن ترى الفرسين عائدتين وحدهما.

مدوّنة الحواشي

ينفخُ الشاعر في ديوانه الروحَ في الحاشية، ويسلبها من المتن، خالقًا شكلًا جديدًا يقدّم نصوصه به، ومعنىً جديدًا للحواشي يتجاوز دورها المعتاد والمقتصر على شرح وإضافة تعليقات إلى عبارات أو مفردات مَنبَتُها المتن، لتصبح هي الكلّ بالكلّ وتتصدر القول ومعناه.

نعدّ الشهور كعناوين تترأس صفحات الكتاب وتتصدره، شهرًا بعد شهر بعد شهر؛ يدوّن العنوان نفسه ثم يصمت، مخلّفًا صفحة بيضاء خاوية، ثم يبزغ من زاويته العليا رقم صغير يقودنا إلى الحاشية أسفل الصفحة، فتظهر مكتوبةً بخط كبير وواضح، يتلو خلاصة عذاب شهر كامل من زمن الانتظار؛ وكأنها تفشي ما حاول المتن إخفاءه.

ينفخُ الشاعر في ديوانه الروحَ في الحاشية، ويسلبها من المتن، خالقًا شكلًا جديدًا يقدّم نصوصه به، ومعنىً جديدًا للحواشي يتجاوز دورها المعتاد والمقتصر على شرح وإضافة تعليقات إلى عبارات أو مفردات مَنبَتُها المتن

لا يُخفي هذا الشكل تناسقه وانصهاره مع الموضوع العام، إذ يوحي فراغ المتن بالخواء الذي يلفّ حالة الانتظار والوحدة القاتلة التي يعجز اللسان حقًا عن وصفها، بينما يفيض القلب –كما في الحواشي- بكلمات القهر والحزن والجنون، وأحيانًا الغناء.. فلا نسمع صوتًا.. بل علامات موسيقية مرسومة.

تمضي الشهور بانتظام: الشهر الأول ثم الثاني والثالث، حتى الشهر الثمانين.. كأنها خطوط محفورة في وجه زنزانة توثّق عُمر السجين؛ وأرى أنه باستثناء عناوين النصوص، تكاد تنعدم الإشارات إلى مرور الزمن، إذ تبقى حالة الانتظار والوجع والتوسّلات والحيرة هي نفسها على مرّ الشهور (من 1 إلى 80)، ما يجعل الوحيدة المنتَظِرة أيقونةً أو رمزًا وليس امرأةً من لحم ودم قد تمرّ مع مرور الأيام وتراكم الخسارات بحالات من اليأس أو التعب أو الكفر بالوحدة والانتظار.

مدوّنة الانتظار

(الشهر 59)

"(...) الوحوشُ،لها أسنان من فتائل فوانيسي،لا تعرفُها، تلك، يهبُها الأسى لأرحامِنساءٍ عادت أفراسُ رجالهنّ وحيدة (...)"

الانتظار هنا ليس مجرّد شعور ينتاب صاحبته وحسب؛ بل طقوس يومية/ شهرية تُمارَس بحواسها كلّها: تحرس الضوء والظلام معًا، تراقب الفَرس، تفسّر أحلامها أوّل الصباح وتأوّلها خيرًا، وتغنّي.

هذا التقمّص الكامل لحالة الانتظار والصبر، والتماهي مع جزئياته وتفاصيله، لا ينسبها الشاعر إلى بطلته المرتّلة/ المنتظِرة فقط، إنما يصبغها بروح جماعية تمثّل النساء المنتظِرات جميعهنّ، الحالمات بلحظات اللقاء، والمنكسِرات شوقًا، والبكّاءات، المتمتمات، المنعزلات تحت ركام النسيان، والمتوسّلات، الحاقدات على الظلام، على النور وعلى الصباح والليل الذي يأتي ويرحل من دون أحبّتهنّ.

هكذا تغدو القصائد وكأنها تُنسَج من عيون نساء كثيرات، ويتحول جرح بطلة المجموعة الشعرية إلى وسيطٍ أو شاهد، يُدوِّن وجعًا لا يُرى، فيجعلُه مرئيًا.

(الشهر 70)

"(...) في ركنٍ -يتجرَّد فيه المرء من سلاحٍ يواجهُ به

المكانَ والزمانَ معًا- أقفُ، وأتأمَّلُ طيفًا يقتربُ نحوي،

طيفُ امرأةٍ تتقدَّمُ كأنها في مرمى جبالٍ وسهولٍ ووديان،

أوَّاهُ، كيف يمكنُ قراءةُ الحكاية ذاتها بمصيرين في ذاتِ

اللحظة؟ أنتَ هنا وهناك الآن، أنتَ لستَ هنا ولستَ

هناك الآن، لم تكنْ ستسمعُني لو وصفت لك شكلَ وحشٍ

يُريني إيَّاه الأسى.

هل نَجَوتَ؟" 

هكذا لا تسرد القصيدة تجربةً خاصةً لامرأةٍ واحدةٍ وحسب، بل تُعيد كتابة سردية انتظار أمهاتٍ وأخواتٍ وبناتٍ وحبيباتٍ انتظرن وانتظرن، بعد أن انتُزِع أحبّتهنّ من أحضانهنّ ولم يرجع منهم سوى قطع من ثيابهم أو ربما أغراضهم أو أوراقهم، أو أفراسهم من دونهم. منذ أزمنة حكايات الجدات وحتى أخبار المعتقلين والمغيّبين والمجهولة مصائرهم في سردية انتظار سوريّات تعلّمن كيف يُجِدْنَه بأنفسهنّ.. من دون بطولات، أو دماء، بل في عزلةٍ طويلة داخل بيوت نسيَت لسنوات مذاق الفرح.

(الشهر 80)

"بخيوطٍ من عُشبِ البيادرِ أغزلُ قماشًا وأخيط به ثوبًا

وأطلقُه في وجهِ الريحِ كما تُطلَق السهامُ المشتعلةُ في أثرِ

الراحلين. ما من حيلةٍ أخرى أقتاتُ عليها حقًّا، سوى

أفعالٍ تقرِّبُني من الوحشةِ وتلقِّنُني خطابَ اللقاءِ الأوَّل

معها (...) هل نجوتَ؟" 

مدوّنة الشاعر- المرأة

تقوم النصوص على وحدة موضوعية وزمنية: كل نصّ يبني ويصوّر حلقةً جديدةً/ شهرًا في رحلة الألم والانتظار.
والشكل مفتوحٌ أقرب إلى قصيدة النثر وأقرب كذلك إلى أناشيد صوفيّة تبتهل إلى أشكال الحياة لإعادة الحبيب الفقيد.

يدع الشاعر نصوصه تنساب من فم المرأة وكأنه هي بذاتها تقف هناك عند الدكّة عاريةً، تتطيّر، وتتربّص بجسدها بالخنجر لئلّا ينسى.

بعض الجُمل طويلة تشبه التنهيدة، وبعضها متقطّع يشبه الخوف؛ ونادرًا ما يستعين الشاعر بالصور الشعرية أو التشابيه والاستعارات، لكنه يحيي بلغته الشاعريّة الخاصّة مشاهد متكاملة، ويصوّر حضورها وكأننا نراها حقًا هاهنا أمامنا. 

(الشهر 1)

"(...) هِرَّةٌ تَرتعِدُ تحتَ شجرةٍ يصافحُ النورُ الظلامَ على أغْصَانِها

للمرّةِ الأخيرة. هل هذه إشارةٌ منكَ؟ هل نجوتَ؟"

يسألن عن النجاة

(في الشهر 18)

"(...) هل ثمّةَ شرحٌ مفصَّلٌّ لكلمةِ النَّجاةِ، هل تنقرُ به

الطيورُ في بطونِ المنتظِراتِ الوحيداتِ ليلًا؟ هل نَجَوتَ؟"

تسأل المنتظِرة وتبحث عن الإجابات: بين أخبار الوافدين، وأخبار الذين رحلوا؛ بين صدور الصخور وشقوق الجدران؛ بين مخالب النسيان تحمل خنجرًا وتحرس الذكريات والصور الدافئة، ولحظات الحبّ.

تسأل.. وتسأل وفي أعماقها تجيب بـ"نعم": هل نجوتَ؟

هل نَجَتْ هي؟ هل تنجو المنتظِرات التوّاقات والوحيدات؟

(الشهور من 1 إلى 80)

"(...) هل نجوتَ؟".

كلمات مفتاحية
فيموني عكاشة (صفحة الفيسبوك)

فيموني عكاشة.. الانتصار لقيمة التجارب الإنسانية البسيطة

محاورة فيموني عكاشة

غلاف الرواية (دار الكتب خان)

"في نهاية الزمان" لعادل عصمت.. فضاء الذاكرة وقلق الوقت

مراجعة رواية "في نهاية الزمان" لعادل عصمت

عبد الرازق قرنه (وكالة الصحافة الفرنسية)

"السرقة" لعبد الرازق قرنه.. محاكمة الماضي وكشف وجه الاستعمار الجديد

عن عبد الرازق قرنه وراية "السرقة"

مادورو
سياق متصل

جبهة الكاريبي الجديدة: لماذا يصعّد ترامب ضد أنظمة أميركا الجنوبية؟

أعلنت الولايات المتحدة عن مكافأة مالية قدرها 50 مليون دولار لمن يدلي بمعلومات تؤدي إلى القبض على الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو

ميرا نايار  وابنها زهران ممداني
أفلام

ميرا نايير تكتب بأفلامها وأمومتها سيرة الهجرة الأكثر اندماجًا

قد لا تبدو أمومة المخرجة الهندية الأميركية ميرا نايار لابنها زهران ممداني، عمدة نيويورك الحالي، حدثًا فنيًا بحد ذاته، لكنها حدث شعري حتمًا

هجمات على جنوب لبنان
سياق متصل

لبنان على صفيح ساخن: تصعيد محتمل وتفاوض تحت النار

يزداد المشهد في لبنان تعقيدًا على وقع التصعيد الإسرائيلي والخرق المتمادي لاتفاق وقف إطلاق النار، والتلويح بإمكانية عملية عسكرية موسّعة

دمار واسع في غزة
سياق متصل

بين دمار غزة والتوتر في الضفة.. الاحتلال يواصل التصعيد وواشنطن تُعدّ قوات "الاستقرار الدولية"

يتواصل اتفاق وقف إطلاق النار الهشّ في قطاع غزة رغم الخروقات المتكرّرة من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، فيما تتزايد التوترات في الضفة الغربية