في زمنٍ باتت فيه كرة القدم تُختزل أحيانًا في أرقام وصفقات وتسويق، ظهر شاب من تبليسي اسمه خفيتشا كفاراتسخيليا ليعيد للعبة شيئًا من سحرها القديم. صار نجمًا صاعدًا في سماء نابولي، رمزًا لثورة كروية أعادت الفريق إلى القمة بعد غياب ثلاثة عقود، لكن قصته لم تتوقف هناك.
خفيتشا كفاراتسخيليا لم يكن مجرد جناح ماهر أو صفقة ناجحة، بل أصبح نجمًا عالميًا ورمزًا وطنيًا، حمل معه روح جورجيا إلى أكبر ملاعب أوروبا
ففي بداية عام 2025، انتقل "كفارا" إلى باريس سان جيرمان في واحدة من أكثر الصفقات إثارة للجدل والحماس، وسط تساؤلات عن قدرته على التأقلم في نادٍ مليء بالنجوم والضغوط. ولم تمضِ سوى أشهر قليلة حتى قاد الفريق الفرنسي لتحقيق حلم طال انتظاره: التتويج بلقب دوري أبطال أوروبا للمرة الأولى في تاريخه.
خفيتشا لم يكن مجرد جناح ماهر أو صفقة ناجحة، بل أصبح نجمًا عالميًا ورمزًا وطنيًا، حمل معه روح جورجيا إلى أكبر ملاعب أوروبا، وفرض اسمه على طاولة الكبار. هذا التقرير الذي نشرته صحيفة "نيويورك تايمز"، يستعرض مسيرته منذ نشأته في تبليسي، وصولًا إلى تتويجه القاري مع باريس، ويغوص في شخصية اللاعب الذي مزج بين الموهبة والتواضع، بين الحلم الوطني والطموح الكروي.

وُلد خفيتشا كفاراتسخيليا في 12 شباط/فبراير 2001 في العاصمة الجورجية تبليسي، في عائلة كروية، فوالده، بادري كفاراتسخيليا، كان لاعب كرة قدم محترف أيضًا. ومنذ سنواته الأولى، بدا أن الشغف بالكرة يسري في عروقه. ترعرع خفيتشا في أحياء تبليسي الشعبية، حيث كانت كرة القدم المتنفس الأول لأبناء الجيل الذي وُلد في سنوات ما بعد الحرب الأهلية، وسط مشهد اقتصادي صعب لكن بإرادة فولاذية للبقاء.
بدأ مشواره الاحترافي مع نادي دينامو تبليسي المحلي، حيث أظهر موهبة استثنائية رغم صغر سنه، لينتقل لاحقًا إلى نادي روستافي، ومن ثم كانت الانطلاقة الحقيقية إلى عالم الاحتراف الأوسع.
المسيرة الاحترافية: خطوات نادرة وثقة مبكرة
في سن الـ18، خاض تجربة احترافية قصيرة في لوكوموتيف موسكو على سبيل الإعارة، قبل أن ينتقل إلى نادي روبن كازان الروسي، حيث بدأ العالم فعلاً يتعرّف على اسم “كفاراتسخيليا”. لُقّب هناك بـ"خفيتشا ميسي" نسبةً لقدراته المهارية والتقنية العالية، لا سيما في المراوغة والاختراق.

لكن الغزو الروسي لأوكرانيا في عام 2022 أجبره على مغادرة روسيا، وهو ما فتح له الباب للعودة مؤقتًا إلى جورجيا عبر نادي دينامو باتومي، ليبقى في دائرة المنافسة، قبل أن ينقض عليه نادي نابولي الإيطالي في صفقة بدت حينها "مجهولة" لكنها تحوّلت سريعًا إلى واحدة من أكثر الصفقات نجاحًا في تاريخ النادي.
معجزة نابولي: النجم الذي أعاد المجد بعد 33 عامًا
انضم كفاراتسخيليا إلى نابولي في صيف 2022 مقابل حوالي 10 ملايين يورو فقط، لكن تأثيره فاق كل التوقعات. شكّل ثنائيًا ناريًا مع النيجيري فيكتور أوسيمين، وقاد الفريق لتحقيق لقب الدوري الإيطالي في موسم 2022-2023، للمرة الأولى منذ عهد الأسطورة دييغو مارادونا عام 1990.

سُمي في إيطاليا بـ"كفارادونا"، تيمّنًا بمارادونا، وأصبح بسرعة معشوق الجماهير في الجنوب الإيطالي. مهاراته في المراوغة، تمريراته الحاسمة، وجرأته في مواجهة المدافعين أعادت الأمل لجماهير نابولي، ورفعت مكانة الفريق أوروبيًا.
رمز وطني: ما يعنيه كفاراتسخيليا للجورجيين
في بلد صغير مثل جورجيا، لا يُعدّ كفاراتسخيليا مجرد لاعب كرة قدم، بل رمزًا وطنيًا. في كل مرة يسجل أو يصنع هدفًا في الدوري الإيطالي أو دوري الأبطال، يهتز الرأي العام الجورجي. أصبحت مبارياته تُنقل في المدارس والمقاهي، وارتفعت مبيعات القمصان في تبليسي بشكل لافت.
نجاح كفاراتسخيليا ليس فقط رياضيًا، بل هو قصة انتصار لأمة تسعى لتثبيت مكانتها وهويتها على الخارطة العالمية. في بلد عانى من الحروب والفقر والعزلة السياسية، أصبح خفيتشا مرآةً للأمل والطموح. صورته على لوحات الإعلانات، واسمه على شفاه الأطفال.
الشخصية: الهدوء خلف العاصفة
رغم النجاح الكبير، يظل كفاراتسخيليا شابًا خجولًا خارج الملعب، متواضعًا، بعيدًا عن الأضواء الزائفة. لا يكثر من الظهور الإعلامي، ويركز على عائلته وتطوير نفسه. في لقاءات عدة، تحدّث عن حبه لوطنه ورغبته في أن يكون قدوة للشباب الجورجي. فهو ذاك الشاب الذي خجل من طلب قميص قائد ليفربول "فيرجل فان دايك"، بعد إطاحة النادي الفرنسي بالريدز في ثمن نهائي دوري الأبطال.

زملاؤه يشيدون بانضباطه، ومدربوه يثنون على ذكائه التكتيكي ورغبته المستمرة بالتعلّم، في حين يرى فيه الجمهور الجورجي "مارادونا تبليسي"، اللاعب الذي مزج بين الموهبة والهوية. ربما يكون أهم ما يميز كفاراتسخيليا ليس فقط قدرته على تغيير نتيجة مباراة، بل على تغيير نظرة شعب بأكمله إلى مستقبله. هو أكثر من نجم... بل قصة جورجية تتألق على مسارح العالم.