مئوية جاذبية سرّي.. سيرة لونية لكفاح المرأة وعفوية الأطفال
4 أكتوبر 2025
تنتمي الفنانة التشكيلية المصرية جاذبية سرّي (1925 – 2021) إلى جيل الروّاد في حركة الفنّ المصري الحديث. ذلك الجيل الذي شهد تألقه في أربعينيات القرن الماضي، وناضل بفنه وموهبته، معبرًّا عن أحلام وطموحات المجتمع خلال حقبتي الخمسينيات والستينيات، وصولًا إلى مرحلتي السبعينيات والثمانينيات بما فيهما من انفتاحٍ اقتصادي وتحولات اجتماعية وسياسية فارقة.
إن الاحتفاء هذا الشهر بمئوية ميلادها، إنما هو في جوهره، احتفاء بكل ما هو أصيل وطليعي في الوقت ذاته. كانت سرّي، إحدى أغزر الفنانات إنتاجًا وتطورًا في فنها على الصعيدين الشخصي والجماعي. فقد عكست لوحاتها صورة المرأة المصرية المكافحة ضد القيود والتحديات المجتمعية في نهاية الخمسينيات، قبل أن تنشغل بألعاب الأطفال المرحة، وتنتقل بعدها إلى رسم البيوت والمدن وزخارفها؛ ضمن ثنائية انصهر فيها البُعدان الإنساني والمعماري.
درست سرّي فن التصوير الزيتي بالمعهد العالي لمعلمات الفنون، وحصلت على الدبلوم عام 1948. وذلك قبل أن تحصل على إجازة التدريس من المعهد ذاته عام 1949، لتسافر إلى باريس لدراسة فن التصوير الزيتي عام 1950، وانتقلت إلى روما عام 1952 لاستكمال الدراسة. وفي لندن، حصلت على دبلوم الدراسات العُليا من كلية "سليد" عام 1955.
عملت سرّي مدرّسة للتربية الفنية بمدارس المعلمات ثم الثانوية الفنية والجامعة الأميركية بالقاهرة، حتى استقرت في المعهد العالي للتربية الفنية، حيث عملت أستاذة لفن التصوير الزيتي حتى عام 1981.
شكّل انضمام سرّي إلى "جماعة الفن الحديث" نقطة تحوّل في مسارها الفني، حيث أقامت أول معارضها الخاصة في عام 1949، ويؤكد الناقد الفني د. صبحي الشاروني أنّ لوحاتها في هذا المعرض قد لاقت اهتمامًا واسعًا، ولا يزال معاصرو تلك المرحلة يذكرون لوحات "أم رتيبة" و"الزوجة الثانية" و"أم صابر"، وغيرها من الأعمال الفنية التي ناقشت قضايا اجتماعية وسياسية.
أحاطت سرّي نفسها بثقافة واسعة حصلت عليها عبر زيارة متاحف العالم والاطلاع على أحدث النظريات والمدارس الفنية، بالإضافة إلى قراءتها الواسعة في شتى أشكال المعرفة الإنسانية كالفلسفة والأدب وتاريخ الفنون. وقد تجلّت هذه المعرفة المتجذرة على نحوٍ واضح في لوحاتها. أو كما قالت في إحدى مقابلاتها الصحفيّة: "أعتقد أن جذوري ممتدة في أرض مصر، لأني أعيش في خضم المجتمع. فارتباطي بالأرض وبالتراث وهضمي لهما بشكل طبيعي، واختلاطي بالناس واطلاعي على الأعمال الفنية في مختلف أطوار عمري، ثم دراستي الأكاديمية وأسفاري العديدة لأكون على علمٍ بأحدث المعارض والمناهج النقدية في الشعر والفلسفة وكل الفنون لأطبقها على الفن التشكيلي، قد منحني قدرةً على امتصاص كل التيارات وانصهار الفنون إضافة إلى استعدادي الشخصي وقابليتي للتعمق في فنون العالم الثالث. وقد أخذت من التراث واستفدت من تقنيات الغرب. وهذه الطريقة هي التي اخترتها شخصيًّا".
إن المتابع للوحات سرّي، لا بد وأن يلحظ حالة من التوق نحو الحرية، وعدم الالتزام بتقاليد الأكاديمية الصارمة في تشريح اللوحة. وقد حدث وأن تمردت في أحيانٍ كثيرة على الكثير من القواعد الثابتة التي كان يُعمل بها لفتراتٍ طويلة. وذلك إلى جانب الجنوح نحو إظهار التفاصيل اللونية والخطيّة التي ترتبط بالمرأة في أغلب أوقاتها. فنجدها تهتم بتفاصيل الألوان التي تختارها المرأة بالإضافة إلى الخطوط الدقيقة والزخارف والتطريزات التي توّشح ثيابها والحُلي التي تعلقها مما يجعل هذه الأعمال تنبض الحيوية والنضارة.
فنانة مصرية أصيلة. فقد تحررت شيئًا فشيئًا من الصياغات الشكلية التي تُعرف بها المدرسة الأوروبية، ونزعت هذه الفنانة الشابة إلى تجديد شباب رؤيتنا للتراث المصري القديم، إذ وفقت بينه وبين أبحاثها في مجال اللون
هذه الحرية، لم تمنعها – يومًا – من الالتزام بقضايا الأُمة المصيرية، فهزيمة 67 والتي ألقت بظلالها الداكنة الكثيفة على مجريات الشئون الثقافية والفنية في البلاد، جعلتها تدخل في حالةٍ من العُزلة والانزواء. واختارت أن تكون تيمة "البيوت" هي ملاذها الآمن والصيغة التي تعبّر عنها في لوحاتها منذ 1968 حتى 1973 مع انتصار تشرين الأول/أكتوبر. ولا ننسى لوحاتها التي عرضتها في مناسباتٍ عدة لتعكس تأثرها بالأحداث السياسية والقضايا القومية حولها مثل "الشهيد" (اغتيال لومومبا) و"التفرقة العنصرية" وجدارية "الحياة على شاطئ النيل".
كانت حريصة على التأكيد على الخطوط في اللوحة، فالخط كما تقول: "عنصر أساسي في لوحاتي، أتعامل معه بحميمية. أهميته كأهمية اللون تمامًا، وهو كالشكل من بديهيات الإبداع الفني". إذ أن لوحاتها تكشف عن فلسفة خاصة وصفها الشاروني بأنها "رفض لبديل التمثال". فقد حرصت على أن تكون لوحاتها من البداية مسطّحة، ليس بها عمق زائف أو استدارة كاذبة. فكانت الألوان البسيطة الخافتة تغطي مساحاتٍ تحددها خطوط داكنة، فأعادت إلى الخط أهميته ورصانته باعتباره أحد مكونات اللوحة الأساسية.
ولعل هذا ما جعل المؤرخ الفني الفرنسي إيميه آزار يصفها في كتابه "التصوير الحديث في مصر" بأنها "فنانة مصرية أصيلة. فقد تحررت شيئًا فشيئًا من الصياغات الشكلية التي تُعرف بها المدرسة الأوروبية، ونزعت هذه الفنانة الشابة إلى تجديد شباب رؤيتنا للتراث المصري القديم، إذ وفقت بينه وبين أبحاثها في مجال اللون".
حصدت سرّي العديد من الجوائز الفنية المرموقة منها: جائزة روما 1952، والجائزة الشرفية من بينالي فينيسيا 1956، وجائزة شرفية من مسابقة الخلق الفني بالقاهرة 1957، وجائزة التصوير الأولى من بينالي الإسكندرية 1963، والجائزة الأولى من صالون القاهرة 1960، وجائزة الدولة التشجيعية في فن التصوير الزيتي مع وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى 1970 وجائزة مسابقة تجميل دار الأوبرا الجديدة بالقاهرة عن تصميم رباعية نسيج 1990. كما أقامت أكثر من 85 معرضًا فرديًّا إلى جانب مشاركتها في المعارض الفنية الدولية.