ماذا بعد موجة تبديل الملابس؟
20 فبراير 2025
بعد انتهاء موجة الاحتفالات بالنصر وموجة تبديل الملابس في المساحات العامة التي حصلت في سوريا بعد هروب الأسد، سواء بشكل فيزيائي من جنود النظام، أو مجازيّ تجسد بثوريّة مفتعلة، أو بسرديّة ما بعد نازيّة عنوانها "لم نكن نعلم"، أصبح واجبًا علينا نحن السوريين استعادة مساحاتنا وساحاتنا التي سُلِبناها. وعملية الاستعادة واسترداد المسلوب لا تكون بالانتظار ولا بالتمني، بل تكون بالفعل وبأخذ خطوات عملية واضحة وصاخبة واستحقاقية.
لقد سلبنا النظام حناجرنا وأصواتنا وساحاتنا ومدننا وبيوتنا وعائلاتنا وقرّاءنا وكتّابنا ودور نشرنا ومسارحنا وموسيقانا. وهذا السلب لم يكن إلا فعلًا عنيفًا اقتلاعيًّا واستئصاليًّا. هذا الاستئصال العدواني كان جزءًا من حملات تطهير ثقافي امتد لسنوات مترافقًا مع تطهير مناطقي وسياسيّ وفكري وتفريغ لمضمون كل ما هو مختلف.
من المؤسف أن حالة معالجة الاقتلاع من السياق لا يتم النظر إليها بعين الاهتمام بالشكل الكافي، بل يتم التعالي عليها وتقزيمها واختصارها ووضعها في قالب ثأريّ أو غريب، وهذا أيضًا جزء من ممارسة الاقتلاع من السياق الذي بقصد أو بغير قصد ما زال مستمرًا. وباعتبار أن السلام دون عدالة مفهوم مائع ومفرغ من معناه، فالحديث عن المصالحة دون أدنى مقوماتها هو حديث طلسمي لا معنى له.
لقد اقتُلع كثير من السوريين من بيوتهم ومن لغتهم ومن مكانهم ومن أصدقائهم ومن ذاكرتهم ومن حميمية محيطهم، وتم رميهم في بدايات دون صفرية بقي كثير منا يراوح فيها، فلا خرجنا حقًا من سوريا، ولا وصلنا فعلًا إلى أي مكان آخر. ونحتاج إلى أعمار فوق أعمارنا لنحكي ونكتب عما مررنا به.
المقاطعة فعل مدني سلمي مهم ويصب في سياق العدالة وهو أكثر كفاءة وأصالة من تسامح مدّعى بغرض الاستعراض والظهور بسذاجة بصورة المسيح
في المقابل. ثمة طهرانية مفتعلة لدى كثير من المثقفين والفاعلين في الشأن العام والمجتمع المدني تحت مسمى الصفح والمصالحة وقلب الصفحة. طهرانية مفرغة من مضامين العدالة واسترداد الحقوق. فلماذا يجب على أشخاص سُلبوا كل شيء أن يقبلوا بمساومات رخيصة لأقل حقوقهم؟ لماذا يطالَب من انتهكت إنسانيته واغتُصب وجوده وانعدمت حياته أن يصبح ملاكًا بشكل مفاجئ من أجل شعارات؟
نحن لا ندعو لثأر ولا نعلق مشانق في الساحات والمراكز، ولكن من حقنا الطبيعي ألا نتشارك مساحة مدنية مع أشخاص تحالفوا مع الدكتاتوية واستفادوا منها. من حقنا ألا نتشارك منصة ثقافية أو خشبة مسرح أو ندوة أو حتى فنجان قهوة مع أشخاص لم يكترثوا لدماء ملايين السوريين وويلاتهم. ومن حقنا أن نقاطعهم ونرفض مشاركتهم. وهذا فعل مدني سلمي محترم لا يجب أن يتم النظر إليه على أنه إقصاء أو تمييز لأنه لا يجوز بأي حال من الأحوال أن يكون صادرًا عن السلطة، فالفضاءات والمساحات والمراكز والوطن للجميع، حتى لأولئك الذين استفادوا من النظام ووقفوا ضد شعبهم، وهذا أمر لا جدال فيه طالما لم تتورط أيديهم بالدم.
لكننا نتحدث عن فعل غير هرمي، أفقي، لا سلطوي، لا يعني سلبهم أيا من حقوقهم، بل يعني أننا نحن الذين ظُلمنا وسُلبنا حقوقنا أمام استحقاق يعنينا، وبحاجة لاسترداد علاقتنا مع وطننا، وبحاجة لأن نتعافى من آفات الحقبة الأسدية وآثارها، ولسنا بحاجة لإثبات نبلنا في الجلوس مع داعم للنظام كان بالأمس يتمنى أن تدوسنا بساطير الجيش العربي السوري، أو في تشارك ندوة مع شخص كان يمجد "حزب الله"، أو آخر يتكسب من منابر إيران.
المقاطعة فعل مدني سلمي مهم ويصب في سياق العدالة وهو أكثر كفاءة وأصالة من تسامح مدّعى بغرض الاستعراض والظهور بسذاجة بصورة المسيح. ثمة عقلية بيضاء تسيطر على رؤية العدالة لا تختلف عن حالات الشبق الجمعي الألماني لجمع فنانين إسرائيليين وعرب تحت مسمى التعايش. أو حالة حملة تافهة لركوب الدراجات الهوائية في برلين حيث يجلس رجل دين مسلم وآخر مسيحي وآخر يهودي على النفس الدراجة ويطوفون المدينة ليتصوروا. هذا الاستعراض الهزلي لمفهوم العيش المشترك أقل ما يقال عنه إنه تافه ورخيص ولا يبنى عليه.
من وجهة نظري، يجب العمل على بناء منظومة المقاطعة كفعل أخلاقي، وكخطوة باتجاه حياة أكثر عدالة. يمكن أن تتجلى في عدم الذهاب لندوة أدبية فيها كاتب مجّد الأسد و"حزب الله"، أو عدم شراء كتاب لكاتبة حرضت على السوريين، في عدم حضور حفلة لمطربة غنت لقاسم سليماني، في الامتناع الجلوس على المنصة معهم، ورفض التطبيع مع أفعالهم بشكل معلن وواضح، وذلك لهدفين: الأول هو حتى يعتذروا أو يفهموا مقدار الأذية التي سببوها ولا يتكرر هذا الفعل لأجيال قادمة، والثاني أن آخر همنا أن "نقلب صفحة" معهم. أولويتنا اليوم هي استرداد أصواتنا وساحاتنا ومساحاتنا وعودتنا إلى سياقنا ولغتنا وبيوتنا ومساحاتنا الشخصية التي علينا أن نجري جرد حسابات معها. أولويتنا بناء بلد يحترم مواطنيه ولا يسمح لسلوكيات كهذه أن تمر دون محاسبة. هذا أهم بكثير من افتعال طهرانية لا تقدم لسوريا أو لمستقبلنا أو للثقافة أو للعدالة شيئًا سوى الهراء.
لقد اقتُلع كثير من السوريين من بيوتهم ومن لغتهم ومن مكانهم ومن أصدقائهم ومن ذاكرتهم ومن حميمية محيطهم، وتم رميهم في بدايات دون صفرية بقي كثير منا يراوح فيها
يسقط النظام فتستضيف التلفزيونات فناني النظام ورجالات سياسته لتلميع صورهم! تتم الدعوة إلى تجمع تحت شعار الدولة المدنية في الأمويين فيتصدر المشهد بعض الشبيحة ويتهم الجميع بأنهم فلول النظام. يتاح الفضاء لشخص مثل جهاد مقدسي ليمارس ما هو بارع فيه "الكلام الديبلوماسي والتلميع"، ويعود بسام كوسا وسيف الدين سبيعي ودريد لحام إلى الواجهة بلغة ما بعد نازية مقيتة، ويكمل ميساك باغبودريان قيادة الأوركسترا الوطنية بحضور ماهر الشرع وزير الصحة وشقيق رئيس الجمهورية في المرحلة الانتقالية. هذا إمعان في تعذيبنا وإهانتنا واستهتار بقيمة الثمن الذي دفعه السوريون للخلاص من الأسديّة وكذب علني أمام شهود أحياء عبر مقولة مضللة تفيد بأن جميع شبيحة النظام كانوا أخيارًا وبشار الأسد كان الشرير الوحيد.
نحن أمام فرصة تاريخية للتعلم من الماضي وعدم تكراره، وهذا يتطلب قطيعة مع الأسدية بوصفها حقبة وفكرة وسلوكًا ومنهجًا وممارسة، وهذا لا يعني أن نستيقظ غدًا فنجد سوريا لا أسدية ونكمل حياتنا بشكل اعتيادي. القطيعة تتطلب فهمًا وتمرينًا وتعلّمًا وإرادة. هي قطيعة مع القبح والرداءة والتشبيح، قطيعة مع أصوات مغنّي أبو حافظ ووجه ممثلي شعبة الحزب وشعر الممانعة وندوات الشبيبة والرفاق البعثيين وتماثيل وصور الأسد وسجن صيدنايا وفرع فلسطين والمخابرات الجوية في آن معًا.
بالقدر الذي تكون فيه مقاطعة الأسديين جزءًا من تعافينا وبناء علاقة صحيّة مع وطننا، هي أيضًا فرصة لهم للتعافي مما كانوا عليه، ودعوة لإجراء مراجعة جذرية لإنسانيّتهم التي خذلتهم أو خذلوها. يجب أن يأخذوها بجديّة ليفهموا مقدار الأذيّة التي سببوها لنا ولهم وللإنسانيّة، وليدركوا أن المواقف الإنسانية والأخلاقية ليست ملابس أو أحذية نخلعها ونلبسها كيفما شئنا. مقاطعة الأسدية بكونها خطوة باتجاه العدالة، هي أيضًا فرصة للأجيال القادمة التي يجب أن تنشأ على قيمة العدالة ومنع تكرار ما جرى في سوريا الأسد، فرصة ليكونوا في وطن أكثر إنسانية وأقل قبحًا.