مرايا الفلسطينيين القديمة
25 سبتمبر 2025
هل يستطيع الكاتب العربي أن يوجّه نقدًا ثقافيًا أو أدبيًا نزيهًا وهادئًا لصديقه المثقف الذي يمشي معه كل يوم، بل ويأكل ويسافر معه؟ وهل يتحمّل الكاتب أو الفنان العربي أن يكتب صحفيّ شجاع عن تجربته وحياته بصراحة من دون تجميل؟ هل قرأتم في الصحف الفلسطينية أو العربية نقدًا صريحًا لحزب أو سياسي عربي أو فلسطيني؟
وحين نتحدّث عن هذا النقد، فإننا نقصد النقد الموضوعي الذي لا يصدر عن حقد أو غيرة أو تصفية حسابات شخصية. ولو حدث أن كان ذلك متاحًا في عصرنا هذا، كيف تتخيّلون ردّة فعل الكاتب المنقود؟ أكاد أراه معكم وهو يرغي ويزبد ويقطع علاقته مع الناقد، بل ويشنّ حملة تشويه ضده بالتعاون مع أصدقائه (المخلصين). هل تصدّقون إن أخبرتكم بالدليل أن الصحافة الفلسطينية الثقافية في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي كانت تمارس مثل هذا النوع من النقد؟
أثناء غرقـي في صحف فلسطين في عقد الثلاثينيات والأربعينيات تحديدًا، توقفت كثيرًا عند صحيفة "مرآة الشرق". تكمن إحدى ميزات هذه الصحيفة في كونها مثارًا للجدل؛ فمن جانب، وقفت إلى جانب معسكر المعارضة للمفتي وللمجلس الإسلامي الأعلى، وشارك صاحبها في إنشاء أحزاب ومنظمات جديدة.
الصحافة الفلسطينية الثقافية في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي كانت تمارس مثل هذا النوع من النقد؟
وعلى الرغم من ذلك، من الصعب جدًا الإشارة إلى سياسة واحدة منهجية دائمة اعتمدتها الصحيفة على مدار السنين. لقد تأسست هذه الصحيفة على يد المربي والصحافي بولس شحادة (رام الله 1882-1943)، خرّيج كلية الشباب الإنجليزية في القدس. نزح سنة 1908 إلى مصر على أثر تصريحاته ضد السلطان والسلطات العثمانية. نشط سياسيًا وشارك في اللجان الوطنية القطرية في البلاد. عانت مكاتب الصحيفة من عدة هجمات بأيدي شبان لم يروا سياسة الصحيفة بعين الرضا، كما اتُّهمت أحيانًا على يد عدة زملاء صحافيين بأنها بوق لسلطات الانتداب حتى في حال تعارض سياسة هذه السلطات مع مصلحة المجتمع العربي وطموحاته الوطنية.
لقد صدرت الصحيفة في بدايتها باللغتين العربية والإنجليزية، وبعد فترة وجيزة (غير واضح متى كان ذلك) صارت بالعربية فقط. توقّفت الصحيفة سنة 1939 بأمر السلطات، ويبدو أن ذلك جاء على أثر تغطية الأحداث السياسية للإضراب العام حين شارف الإضراب على نهايته.
في أعداد الجريدة الأسبوعية هذه، ثمة زاوية طريفة وشجاعة اسمها في المرآة، يتناوب عليها أكثر من صحفي وبأسماء مستعارة أو كلمات غريبة مثل: (عارفك)، (أبو محمد)، (صائب) وغيرها.
في كل عدد تقريبًا هناك كاتب أو شاعر أو سياسي أو مثقف يُوضَع في المرآة، ليكشفوا تناقضاته وحتى شكله وضحالة كتاباته وسخافاته وقبح ماضيه وجبنه مثلًا، لكنهم أيضًا لا يغفلون عن جوانبه الرائعة والمشرّفة وإنجازاته الأدبية ومكانته. ويبدو أن أحد أهداف هذه الزاوية هو التسلية والتندر وإثارة الفضول واستجلاب القرّاء والمشتركين، إلى جانب جديتها الفكرية.
لم ينجُ أحد من مثقفي تلك الحقبة من مخالب كتّاب هذه الزاوية، التي كان لها متابعون كثر. حتى بولس شحادة، مؤسس الجريدة وصاحبها، وُضِع في المرآة. ومما جاء في نقده في عدد 22 آذار/مارس 1928: "ليس بالطموح، بل قنوع، فلا يميل لتحسين جريدته ولا لمجاراة زملائه، معتقدًا أن المشتركين هم هم سواء صارت الجريدة يومية أم بقيت أسبوعية. غلبت عليه المادية حتى تظنه بخيلًا، يشكو ألم الفقر دائمًا، ويتذمّر من الحالة الراهنة".
في كل عدد تقريبًا هناك كاتب أو شاعر أو سياسي أو مثقف يُوضَع في المرآة، ليكشفوا تناقضاته وحتى شكله وضحالة كتاباته وسخافاته وقبح ماضيه وجبنه
وفي عدد آخر بتاريخ 7 تموز/يوليو 1926، نقرأ عن المفكر والشاعر والمثقف الكبير محمد إسعاف النشاشيبي: "كان يود أن يسافر إلى أوروبا طلبًا للعلم لكنه لم يتوفّق واقتصر على معلوماته المختصرة، وله عذر فهو لم يعرف من دهاقنة الغرب وفلسفتهم سوى الأسماء."
وعن نجيب نصار، محرر مجلة "الكرمل" الشهيرة، نقرأ في عدد 22 أيلول/سبتمبر 1927: "أما إذا أردت أن تعرف كيف يغسل وجهه، فاسأل الأستاذ الشقيري، فإذا غسل في غرفة لا يترك فيها من أثاث وغيره دون نثار الماء، ومتى تمضمض تسمع دوِّيًا كموج البحر." وعن صاحب "يقظة العرب"، المؤرخ جورج أنطونيوس، نقرأ في عدد 11 آب/أغسطس 1927: "يقال إن له نزعة مسيحية سياسية، وأنه رفض مساعدة جمعية لنشر التعليم العالي بين المسلمين، ثم يقال إن سياسته استعمارية إنجليزية." حتى عملاق التربية والتعليم في فلسطين أحمد سامح الخالدي وقع في المرآة، وجاء في عدد 9 حزيران/يونيو 1927: "عصبي المزاج، حاد الطبع، ويا لسوء حظ من يجلس بجانبه، فقد يزعجه بيده فهي لا تنفك عن دفشه ونخزه ودقره. أديب فاضل لكن تنقصه موهبة أين يخطب ومتى يختصر، وربما أثرت عليه مهنة التعليم، فأصبح يحدث الناس وكأنه بين تلاميذه."
عشرات من الأسماء اللامعة وقعت في المرآة. بعضهم غضب واحتجّ وأرسل ردًا مكتوبًا، لكنه كان يرضى ويبتسم في النهاية لأنه يعرف أنها مجرد فكاهة هدفها التسلية. والغالبية أقرت بعيوبها.
لماذا أعود إلى مرايانا القديمة؟ أهي أكثر اتساعًا وصدقًا ونظافة؟ أم هروبًا من واقع مرايانا الحديثة الكئيبة؟ أم بحثًا عن أصالة ما ورائحة شيء حقيقي؟ شيء ساطع يشبه وجهنا الجميل القديم وبلادنا الحبيبة؟