مرحلة غريبة مثل كل المراحل

كنا نتحدّث عن السيرك السياسي الذي نعيش فيه، حين قلت فجأة: "نعيش مرحلة غريبة." رفع حاجبيه ساخرًا، وقال بهدوء: "وهل عشنا يومًا مرحلة طبيعية؟

بدت جملته بقوة المفتاح، لا التعليق، لأنها فتحت أمامي الباب على إدراك صاعق، أن ما نظنه استثناء ليس سوى القاعدة نفسها، وأن الغرابة ليست الاستثناء بالضرورة.

ولعل تاريخنا البشري كله ليس سوى سلسلة متعاقبة من الكوارث، إلا أنّ ما يميز حاضرنا أن الغرابة باتت قاعدة يومية، والمؤسف حقًّا هو أن السياسة، التي وُلدت لتبني المجتمعات وتصون الحلم الإنساني، انحدرت إلى استعراض يوازي الإعلانات التجارية، أو تهريج الكوميديا الرخيصة، إذ صرنا نعيش في عالم يدار بالاستعراض لا الحكمة أو العقلانية، ولم يعد القادة مهتمين بأن يقدموا رؤى تختصر مشاريع بمقدار ما يهتمون بتقمص أدوار نجوم عالم الترفيه. 

نعرف أن التفاهة سيطرت على مختلف مفاصل عالمنا، وخلقت منه ما بات يسمى "نظام التفاهة". هذا في الحياة لكنها في السياسة صارت هي المشهد نفسه. فنأخذ مثلًا دونالد ترامب حين يقف أمام الكاميرات ويقول إن النائبة إلهان عمر "منخفضة الذكاء"، ويضيف باستهزاء أنه عرض على الرئيس الصومالي أن يأخذها معه لكنّ الأخير رفض. يضحك طاقم إدارته المنتقى من مجانين من كل لون، وتتحوّل السياسة إلى سماجة.

ثم يطلّ توماس برّاك ليعيد اقتباس كليشيهات من المعجم الاستعماري عن أن شعوب المنطقة مجرد "قرى وقبائل". مختزلًا التاريخ، ومعه الحاضر، في صورة تجعل الواقع صالحًا لتبرير الوصاية والتدخّل. 

ثم تعتلي فرنسا الخشبة بوصفها ممثلة لا دولة، لتؤدي شخصية تحمل انشطارًا نفسيًا. في المشهد الأول، تعلن اعترافها رسميًا بدولة فلسطين، وتقدّم قرارها على أنه تحوّل تاريخي في سياستها الخارجية. وفي المشهد الثاني، تعاقب كل البلديات التي رفعت العلم الفلسطيني على مبانيها، تحت ذريعة "الحياد السياسي". هكذا، على منصة السيرك، تتقن "الجمهورية" تمثيل التناقض عبر احتفائها بالمبادئ في الخطب، وتجريمها في الواقع. 

بين اعتراف على الوراق ونكران في الواقع تتحفنا بتفاهة الانفصام.

ولو شئنا السير قدمًا، فإن السيرك لا يعرف حدودًا. من هذيانات خيرت فيلدرز في هولندا إلى هوس فيكتور أوربان الذي يتصرف وكأنه يعيش في زمن قيصريّ، وصولًا إلى الأرجنتين حيث يظهر رئيسها، خافيير ميلي، مثل نجم روك معتوه، لم يكتف بالوقوف أمام جمهوره ملوّحًا بالمنشار الكهربائي، بل راح يُهدي هذا المنشار لأشباهه وكأنه رمز أسطوري لأخوية.

ثلاثة من المجانين، أولهم يبيع الخوف، وثانيهم يبيع الوهم، وثالثهم يبيع الخراب، لكنهم يقدّمون العرض نفسه أمام جمهور لم يعد يؤثر فيه الذهول، ما لم يأتِ زعيمٌ أشد وقاحة.

ثم يسافر بنا السيرك إلى الهند، حيث استخدم مودي في حملته الانتخابية عام 2024 خطابًا تحريضيًا، إذ ورد في تقرير "هيومن رايتس ووتش" أنه أدلى بأكثر من مئة تصريح استهدف المسلمين، متّهمًا إياهم بأنهم "دخلاء"، لا شرعية لوجودهم في البلاد، وأنهم أكثر إنجابًا. وبهذا يتحوّل القائد من رجل دولة إلى مُحرّض قبليّ يبيع الخوف ويزرع الانقسام كأقصر الطرق للبقاء في السلطة.

"مرحلة غريبة" هذا ما قلته، لكنني صحّحت لنفسي بصوت لم يسمعه صاحبي: بل هي مثل كل المراحل التي تخلّت فيها السياسة عن جوهرها، وارتدت زيّ المهرّجين وطلاءهم، وأدخلتنا سيركًا بائسًا لا يمكنه أن يُضحكنا، إذ كيف للفكاهة أن تلتقي مع الدماء؟ وكيف للخفة أن تجاور الجريمة؟