23-أبريل-2025
المقابر التاريخية في القاهرة

(Getty/ الترا صوت) هدم المقابر التاريخية في القاهرة

شهدت القاهرة، خلال السنوات الأربع الماضية، تغييرات واسعة في ظل حملات إزالة تستهدف توسيع الطرق وبناء الكباري، مما أدى إلى هدم مقابر ومنازل تاريخية تعبّر عن تراث العاصمة العريق.

بدأت أزمة هدم المقابر التاريخية في تشرين الأول/أكتوبر 2021، عقب صدور مذكرة تحدد مواقع المدافن التي ستُزال ضمن مشروع تطوير محور صلاح سالم، الممتد من محور جيهان السادات حتى حديقة الفسطاط بطول 6 كيلومترات، وتشمل: جبانات المجاورين، باب الوزير، سيدي جلال، السيدة نفيسة، الطحاوية، الإمام الشافعي، وسيدي عمر.

أثارت هذه التغييرات جدلًا واسعًا في أوساط مختلف فئات الشعب المصري. لكنها، في المقابل، أنتجت موجة وعي شبابية غير مسبوقة، خاصةً على مواقع التواصل الاجتماعي، من خلال مبادرات، أغلبها فردية، تهدف إلى توثيق التراث والحفاظ عليه.

التوسع العمراني في مواجهة التاريخ

تهدف مشروعات البنية التحتية إلى تسهيل حركة المرور وتحسين المرافق العامة، لكنها تأتي في كثير من الأحيان على حساب مواقع تاريخية ذات قيمة كبيرة. ففي مناطق مثل مقابر الإمام الشافعي وصحراء المماليك، أُزيلت مقابر أثرية تعود إلى مئات السنين، مما أثار غضب المهتمين بالتراث.

المقابر مدن للأحياء أيضًا، حيث تعيش فيها أسر، وبينهم طلاب جامعات يدرسون الطب والهندسة، بل إن بعضهم تخرج وأصبح من أصحاب المهن والوظائف المرموقة

ويرى المسؤولون أن هذه المشروعات تمثّل ضرورة تنموية، بينما يؤكد خبراء التراث وجود حلول بديلة تحافظ على التراث دون عرقلة خطط التطوير، ومنها جعل منطقة الإمام الشافعي متحفًا مفتوحًا يوثق تاريخ المدينة، ويتيح زيارة مدافن شخصيات مصرية بارزة ساهمت في صناعة الحضارة.

مع تصاعد حملات الإزالة، لم يقف الشباب مكتوفي الأيدي، بل أطلقوا مبادرات رقمية وميدانية، وصفحات توثيقية على وسائل التواصل الاجتماعي، بهدف التوعية بأهمية المواقع الأثرية. 

ومن أبرز هذه المبادرات "جبّانات مصر" التي تسعى إلى توثيق وتصوير المقابر قبل إزالتها، و"رسم مصر" التي تعمل على إبراز جماليات القاهرة التاريخية من خلال الفن وجهود فردية التف حولها الشباب أيضًا. وقد لاقت هذه المبادرات تفاعلًا واسعًا على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث شارك مئات الشباب بصور وأبحاث وقصص تسرد تاريخ الأماكن المهددة بالإزالة.

لم يعد الاهتمام بالتراث مقتصرًا على الأكاديميين والمتخصصين، بل تحول إلى قضية رأي عام، خاصةً مع الانتشار الواسع للمقاطع المصورة التي توثق المباني المهددة بالإزالة، ما دفع البعض إلى مطالبة الجهات المعنية بإعادة النظر في آليات التطوير العمراني. كما بدأت بعض الشخصيات العامة بدعم هذه الحملة، مما ساهم في تسليط الضوء على القضية بشكل أوسع.

وفي تصريح لـ"الترا صوت"، قال إبراهيم طايع، صاحب صفحة "جبانات مصر"، إن نشر الصور والفيديوهات على وسائل التواصل الاجتماعي ساهم، بشكل كبير، في تغيير نظرة المجتمع إلى المقابر، حيث بدأ الناس يدركون قيمتها الأثرية والتاريخية.

وأشار طايع إلى أن هناك العديد من الشباب، الذين تتراوح أعمارهم بين 17 و20 عامًا، بدأوا في زيارة هذه المواقع بدافع الفضول والمعرفة، بعدما كانت تُصوَّر في الإعلام والسينما بوصفها مناطق موحشة، أو حتى بؤر للجريمة والمخدرات. لكن الواقع مختلف تمامًا، إذ إن المقابر ليست مجرد أماكن للموتى، بل هي "مدن للأحياء" أيضًا، حيث تعيش فيها أسر، وبينهم طلاب جامعات يدرسون الطب والهندسة، بل إن بعضهم تخرج وأصبح من أصحاب المهن والوظائف المرموقة.

وأوضح طايع أن هناك العديد من المبادرات التي ظهرت في هذا المجال، مثل مبادرة "رسم مصر" التي أطلقها الدكتور محمد حمدي، و"شواهد مصر" للأستاذ حسام عبدالعظيم. ومع ذلك، تبقى الجهود الفردية هي الأكثر استمرارية، من بينها ما يقوم به الدكتور مصطفى الصادق، الذي يُعد الأب الروحي لهذا المجال، إلى جانب أحمد أيمن ومحمد عبد الملك، وهما من أكثر الأشخاص شغفًا بتوثيق المقابر والحفاظ على التراث، على حد قوله.

من جهته، قال الدكتور مصطفى الصادق، المهتم بتوثيق معالم القرافة، في حديثه لـ"الترا صوت"، إن هناك زيادة ملحوظة في وعي الشباب تجاه التراث والتاريخ الإسلامي، ليس فقط فيما يتعلق بالمقابر، بل امتد الأمر ليشمل مختلف الجوانب التاريخية، مثل تاريخ أسرة محمد علي، والمناطق الأثرية المختلفة، بما في ذلك الإسلامية والقبطية واليهودية.

وأشار إلى أن الإقبال على الندوات التاريخية والزيارات الميدانية أصبح أكثر وضوحًا، حيث بات الشباب يشاركون بحماس في فعاليات تتعلق بالقاهرة التاريخية. وأوضح أن الفضل في هذا الوعي المتزايد يعود بدرجة كبيرة إلى وسائل التواصل الاجتماعي، التي لعبت دورًا رئيسيًا في تسليط الضوء على قضايا مثل هدم المقابر، وهو أمر ربما لم يكن ليحظى بهذا القدر من الاهتمام لولا التفاعل الرقمي المستمر.

وأكد أن المقابر ليست مجرد أماكن للدفن، بل هي مصدر غني بالمعلومات التاريخية، إذ تتيح شواهد القبور التعرف على شخصيات بارزة لم يكن الكثيرون على دراية بها. وضرب مثالًا بإسماعيل باشا صدقي، رئيس وزراء مصر السابق، الذي ذكر في مذكراته تاريخ وفاة والده بشكل خاطئ، بينما كان التاريخ الصحيح موثقًا على شاهد القبر.

وأشار صادق إلى أن المقابر تُعد مصدرًا مهمًا لدراسة التاريخ، تمامًا كما كان يفعل المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي، الذي استند في بعض رواياته إلى شواهد القبور. وأضاف أن هناك العديد من الشخصيات التي لم يكن يعرفها إلا من خلال توثيق المدافن، مثل أحمد المنكلي، أحد وزراء الحربية، ومحمد راتب باشا، سردار الجيش المصري في الحبشة، وغيرهم من القادة العسكريين والشخصيات المؤثرة في تاريخ مصر.

واختتم حديثه بالتأكيد على أهمية الحفاظ على التراث، معتبرًا أن ازدياد وعي الشباب يمثل رد فعل إيجابيًا تجاه التحديات التي تواجه المواقع الأثرية، رغم أن عمليات الهدم تُفقدنا أجزاءً لا تُعوض من تاريخنا. وشدد على أن نشر الصور والقصص حول هذه الأماكن يسهم في تعريف الأجيال الجديدة بقيمة التراث، مشيرًا إلى أن كثيرين لم يكونوا يعلمون، على سبيل المثال، بوجود متحف لأحمد شوقي، أو بأهمية العديد من المواقع التاريخية الأخرى.

وقال عمرو نصحي، 17 عامًا، إنه لم يتعرف على المقابر والمواقع الأثرية إلا من خلال "فيسبوك"، وتحديدًا بعد تعرضها للهدم. وأوضح أنه يشعر بالحزن لأنه اكتشف قيمتها بعد أن تحولت إلى كومة من التراب، مما جعله يشعر وكأنه فقد جزءًا من التاريخ دون أن تتاح له فرصة استكشافه.

وأضاف أنه هو وأقرانه ما زال لديهم أمل في وقف هدم المقابر والبيوت التاريخية، مؤكدًا أن هذه التجربة دفعته إلى الاهتمام بالمواقع الأثرية المتبقية في القاهرة. وأشار إلى أنه أصبح أكثر حرصًا على زيارة هذه الأماكن، وتوثيقها بصور حديثة، ومشاركتها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، في محاولة للحفاظ على ذاكرتها وتعريف الآخرين بأهميتها.

جدير بالذكر أن عمليات هدم المقابر التاريخية في منطقة الإمام الشافعي لا تزال مستمرة، وسط إجراءات أمنية مشددة تمنع التصوير وتقيّد دخول الباحثين إلى المنطقة أثناء عمليات الإزالة.

وفي هذا السياق، ذكر موقع "مدى مصر"، نقلًا عن مصادر معنية بالتراث والآثار وحراس مقابر، أن موجة الهدم الأخيرة بدأت منذ 6 شباط/فبراير الماضي، وغالبًا ما تُنفذ عمليات الإزالة خلال ساعات الليل، لتُستكمل في الصباح بنقل الأنقاض والركام.

أحد المهتمين بالتراث أشار إلى أن الأيام الماضية شهدت هدم عدة مقابر بارزة، منها مقبرة زهرة فاضل، ابنة مصطفى فاضل ابن إبراهيم باشا، ومقبرة إبراهيم أدهم الدمرداش، حفيد عبد الرحيم الدمرداش، الذي وهب أرضه لمستشفى الدمرداش، بالإضافة إلى مقبرة علي مير رضا يكن، شقيق أمينة زوجة محمد علي، والتي كانت من أكثر مقابر المنطقة تميزًا بسبب زخارفها الفريدة ورسوم سقفها.

المقابر في القاهرة جزء أصيل من تاريخ المدينة، وتمثّل بعمارتها اللافتة فنًا في حد ذاته

وتعد وتيرة الهدم الحالية الأسرع مقارنةً بالموجات السابقة، حيث بدأت بإزالة مقبرة الشاعر محمود سامي البارودي، أحد رموز الوطنية المصرية، ثم تبعها هدم مقبرة ومدفن محمد زكي أبو شادي.

كما استوقفت الأجهزة الأمنية بعض الباحثين في التاريخ أثناء تواجدهم في المنطقة، وأجبرتهم على مسح الصور والفيديوهات التي التقطوها للمقابر، مع تحذيرهم من العودة مجددًا.

يُذكر أن المقابر في القاهرة جزء أصيل من تاريخ المدينة، وتمثّل بعمارتها اللافتة فنًا في حد ذاته، حيث شارك في إنشائها عدد من كبار المعماريين الأجانب، منهم المهندس الإيطالي إرنستو فيروتشي، كبير المهندسين في السرايات الملكية، وصاحب تصميم قصر رأس التين، ومبنى معهد الموسيقى العربية، وإضافات قصر عابدين.

وتضم جَبَّانة القاهرة بين جوانبها مقابر بعض الشخصيات الشهيرة، أمثال الإمام ورش، صاحب "قراءة ورش" القرآنية، ومقام الإمام وكيع مقرئ الإمام الشافعي، والشيخ محمد رفعت، وعبد الخالق باشا ثروت، والشمسي باشا، وعثمان مصطفى، ومحمد نسيم توفيق. كما تضم رفات فنانين مشاهير، من بينهم يوسف وهبي، وأم كلثوم، وعبد الحليم حافظ، وأسمهان، وفريد الأطرش، وهند رستم، وصلاح ذو الفقار.