21-مايو-2025
حكام كرة القدم

مثل أي شيء في كرة القدم، تحول التحكيم تحوّلًا جذريًا عبر الأجيال. وولّت أيام التحكيم على أرضية الملعب، وصرنا في عصر يعتمد على غرفة كاملة بشاشاتها وحكامها، وذلك لتحديد موقف ضربة جزاء فقط. أصبحت الأخطاء غير مقبولة في المباريات، بالأخص أخطاء الحكام التي قد تُنهي مستقبل فريقٍ كامل، أو تحدد بطل كأس يُلعب الآن.

يتغير كل شيء في عالم الساحرة المستديرة، وقد يكون دور الحكم أكثرهم تغيرًا. تحوّل من رجلٍ واحد لا يحمل إلا صافرته، إلى أحد أكثر الأدوار اعتمادًا على التقنية، وكل هذا لمحاولة الوصول إلى الكمال في كرة القدم. لتُصبح وظيفة الحكم من أكثر الوظائف حساسية في الرياضة، والتي يتابعها أكثر من خمسة مليارات شخص.

أزمات الملعب كانت تُحل بين قادة الفرق

بدأت كرة القدم، بصورتها المعروفة الآن، في إنجلترا. دارت فكرة الرياضة حول استخدام القدم والكرة، وكانت قوانينها هي ذاتها قوانين رياضة الرغبي، التي انشقت عنها كرة القدم، وذلك بعد تأسيس الاتحاد الإنجليزي لكرة القدم عام 1863، الذي بدأ في العمل على قوانين الرياضة، وتبعه مجلس الاتحاد الدولي لكرة القدم في تطبيقها بجميع أنحاء العالم.

أي نزاع بين فريقين على خطأ ما، كان يتم حله من خلال اجتماع القائدين على أرضية الملعب، ويلعبان دور الحكم الذي نعرفه الآن

طغت العشوائية على قوانين كرة القدم، التي كانت تسمح بحمل الكرة والجري بها، وحتى ضرب حاملها في ساقه للحصول على الكرة مرة أخرى. غابت فكرة وجود شخص مسؤول عن تطبيق القوانين، واكتفت الفرق برأي قادتها. يُحل أي نزاع بين فريقين على خطأ باجتماع القائدين على أرضية الملعب، ويلعبان دور الحكم الذي نعرفه الآن، وكأنهم مجموعة من الطلاب يلعبون سويًا في ملعب مدرسة.

يُعتبر أمرًا طبيعيًّا أن ينحاز كل قائد لفريقه، والاعتماد على نُبل القائدين قد يظلم أحدهما، وهنا بدأت فكرة الطرف المُحايد. يوجد شخص وظيفته الوحيدة أن يحل النزاع بين قادة الفرق، وإن اتفق كل فريق عند أي خطأ، فلا توجد حاجة لرأيه، ويميل لدور المستشار أكثر من دور الحكم. فما يقرره الحكم مُطلق تحت أي ظرف، فلا حاجة للمستشار إن لم يُطلب رأيه. وهذا الشخص هو ضابط الوقت على أرضية الملعب، الذي كانت وظيفته أن يبدأ أو يوقف المباراة فقط.

حدة المنافسة احتاجت إلى ضابط حيادي

شهد عام 1891 وصول الفرد الثالث والعشرين إلى أرضية الملعب، وهو الحكم. يقول عنه الصحفي الأوروغواني إدواردو غاليانو، في كتابه "كرة القدم بين الشمس والظل": "الحكم هو أكثر رجل يتعرض للإهانة في الملعب. لا أم له، ولا جنس، ولا قلب. إنه لص، ومرتزق، ومخادع. الجماهير تصرخ بأنه عار على الأمة. ومع ذلك، عندما يؤدي عمله بشكل جيد، لا أحد يلاحظ".

وضعه اتحاد كرة القدم في منصب القاضي، فأحكامه نافذة ولا يمكن نقدها أو استئنافها، وهو من يتحكم بمجريات الأمور على أرضية الملعب. يضمن أن القوانين التي سنها الاتحاد تُطبق داخل أرضية الملعب، ويُحافظ على نزاهة المباراة، كما أن سلامة اللاعبين جزء من مسؤولياته أيضًا.

حكام كرة القدم

يحق له أن يوقف المباراة، وأن يحدد من يخرج من أرضية الملعب ومن يظل عليها، ويتحكم بالكامل في أحداثها، ولا يحق لأي لاعب أن يسأله عن قراره. ويمارس الجميع الضغط عليه، بدءًا من لاعبي الفرق الذين يقف بينهم، وصولًا إلى آخر طفل يجلس في مدرجات الملعب الذي يستضيف المباراة.

الحكم في حاجة لمن يسانده

يصعب على شخصٍ واحد أن يدير مباراة كرة قدم بأكملها، ولهذا استعان الحكم بثنائي مراقبي الخط، ويقف واحد منهما في كل ناحية من الملعب، ليُراقب اللعب من ناحية الفريقين. وتدور وظيفتهما حول مراقبة نصف الملعب الخاص بكل واحد منهما، وذلك لمساعدة الحكم إذا احتاج إلى مساعدة في اتخاذ أي قرار، وقد لا يُطلب رأيهما في مباراة كاملة لأن الحكم هو صاحب اليد العليا في كل شيء.

حكام كرة القدم

تتحول كرة القدم، مع مرور الزمن، إلى رياضة أكثر تنافسية، ولا يُمكن للحكم أن يأخذ كل القرارات بمفرده. وقررت اتحادات الكرة المختلفة أن تجعل لمراقبي الخط دورًا أكثر أهمية، وذلك في أوائل القرن العشرين، حيث يُراقب كلٌّ منهما تحرك الكرة داخل وخارج الملعب، ويحملان الآن راية تُتيح لهما إرسال إشارة للحكم، معلنين حدوث خطأ أو تسلل، ومن هنا يقرر الحكم أن يوقف أو يُكمل اللعب.

عصر ما قبل التقنية: بطاقات، سماعات وتليفزيونات

يمكن أن تسمى الفترة بين 1958 و2002 بعصر "ما قبل التقنية"، وهذا لأنها شهدت تغيرات قليلة نسبيًا، مقارنةً بما حدث منذ بداية الآلفية، والتي شهدت طفرة في استخدام الكمبيوتر في كل شيء. وعصر التقنية هذا كان لا بد أن يصل إلى كرة القدم، ولكن ما حدث قبله ألهم ثورة التقنيات التي لا زلنا نعاصرها.

دخول التبديلات وإدارة الوقت

يُمنع خروج لاعب من أرضية الملعب ونزول آخر إلا في الحالات الحرجة، وهي حالات الإصابة.

اتفقت كل اتحادات كرة القدم على أن خروج اللاعب، إن لم يكن مصابًا، غير مسموح، ولو خرج لاعب لأي داعٍ آخر، سيستمر الفريق بعشرة لاعبين. تغير هذا بشكل رسمي في عام 1958، الذي سُمح فيه بتبديل لاعبٍ واحد فقط.

حكام كرة القدم

زاد عدد التبديلات في المباراة الواحدة مع مرور الوقت، مما فرض على الحكام مراقبة عملية التبديل، للتأكد من أن كل تبديل يجري بشكل طبيعي، وأنه لا يوجد أي نوع من التلاعب أثناء التبديل أو محاولة قتل الوقت، وهي أمور يحتاج الحكام إلى متابعتها عن كثب، خاصةً في الدقائق الأخيرة من المباريات المهمة.

وصول البطاقات إلى جيوب الحُكام

ظهرت البطاقات لأول مرة في كأس العالم 1970، الذي أُقيم في المكسيك، واستوحت الفيفا هذا النظام من إشارات المرور. سُمح للحكام بطرد اللاعبين طالما ثُبتت حالة خرق للقانون، ولكن لم يكن هذا يحدث بشكل علني، إذ كان من في الاستاد فقط يعرف الوقت والسبب، وكان من الصعب على المشاهدين استيعاب حالة الطرد أو الإنذار، مما جعل كرة القدم بحاجة إلى إظهار هذا بوضوح.

يعود السبب وراء هذا النظام إلى حادثة طريفة في مباراة بين إنجلترا والأرجنتين ضمن كأس العالم 1966، عندما تم طرد اللاعب أنطونيو راتين شفهيًا. يتذكر المشجعون حينها أن اللاعب لم يفهم أنه طُرد، لأن الحكم كان يتحدث الألمانية فقط. وعندما علم بطرده، عطل اللعب لمدة تسع دقائق، محتجًّا بالإسبانية على القرار، بينما كان الحكم يصرخ بالألمانية. تدخل الحكم كين أستون لحل الأزمة في ذلك اليوم، وخرج بفكرة البطاقات المستوحاة من إشارات المرور، التي أصبحت لاحقًا جزءًا من اللعبة.

إعادة اللقطات فتحت أبواب الانتقاد على الحكّام

يظل اختراع الإعادة الفورية نقلةً في عالم الإذاعة، وقد قدمته قناة CBS في مباراة لكرة القدم الأمريكية عام 1963، بين فريقي الجيش والبحرية الأمريكية. تعمل التقنية عن طريق تسجيل كل لحظة على شريط فيديو، وبثها لاحقًا عند الحاجة، ووصل هذا الاختراع إلى كرة القدم، ليحوّل كل لقطة في الـ 90 دقيقة إلى مشهدٍ كامل يمكن تحليله — ولا يوجد أفضل من تحليل الجماهير.

حكام كرة القدم

رأت الجماهير حول العالم أخطاء الحكّام التحكيمية، وهاجمت كل من يُخطئ في حق فريقها، وحتى لو كان على صواب. صارت وسائل الإعلام تنتقد الحكّام أيضًا على الهواء مباشرة، وساعدت في توجيه المزيد من الضغط عليهم. ناهيك عن تحليل المباراة بين الشوطين، وما شابهه من فقرات أثناء المباراة وخارجها، تحلل كل خطوة يخطوها الحكم ومساعدوه، ناسيين أنهم بشر، وقد يخطئون كبقية البشر.

تطور التقنية يعيد تشكيل التحكيم في كرة القدم

تمكنت ثورة معالجة البيانات، والتي ظهرت مع بداية الألفية الجديدة، من تفعيل العديد من التقنيات المختلفة وتقديمها لكرة القدم، وبالأخص في الجانب التحكيمي. ومع زيادة الضغوط على فريق التحكيم، كان لا بد أن تُقدم التقنية حلولًا تمنعهم من ارتكاب الأخطاء على أرضية الملعب، وترحمهم من هجوم الجماهير بسبب هذه الأخطاء، وتنقذ الفرق من أي ظلم ناتج عن خطأ تحكيمي.

التواصل اللاسلكي بين الحُكام

اعتاد الحكام التواصل معًا بالإشارات البعيدة فقط، والتي كانت غير فعّالة في بعض الأحيان، حيث لا يلاحظ الحكام بعضهم، ويتسبب هذا في أخطاء تحكيمية فادحة. سمحت الفيفا في عام 2005 باستخدام أجهزة اللاسلكي، وذلك للتواصل بين الحكم ومساعديه عند الحاجة، وفي أي وقت.

حكام كرة القدم

تمكّن الحكام من التعامل مع الأخطاء والتسللات بشكلٍ أسرع، وبطريقة لا تؤثر على وتيرة المباراة، مما يسمح للفريقين بالخروج بالكرة سريعًا أو استغلال المساحات، بدلًا من تعطيل اللعب ومنح فرصة للدفاع من الفريق الآخر. والأهم من ذلك، أنها فتحت الطريق لتقنياتٍ أخرى على أرضية الملعب.

تقنية خط المرمى تُخلص من الجدل

يجب أن تمر الكرة بأكملها من على خط المرمى ليُحتسب هدف. وقبل عام 2012، دخلت كرات عديدة المرمى جزئيًا وحُسِبت كأهداف، والعكس صحيح، وزوايا الكاميرات كانت تُثبت ذلك في كثير من الأحيان، ولكن الحكم لم يكن بإمكانه العودة إلى الشاشة مثل المُشاهد ليتأكد من صحة الهدف.

حكام كرة القدم

سمح مجلس الاتحاد الدولي لكرة القدم باستخدام تقنية خط المرمى، ولكنه لم يفرضها على جميع الدوريات بسبب تكلفتها المُرتفعة. تعتمد التقنية على استخدام كاميرات تُحيط بخط المرمى، وترسل إشارة إلى ساعة الحكم تُعلمه بأن الكرة مرّت بأكملها فوق الخط، لتحسم الجدل حول هذه الكرات. وقد تبنّتها الدوريات الأوروبية الكبرى، إلى جانب دوري أبطال أوروبا وآسيا.

تقنية الحكم المساعد بالفيديو - الـ VAR

يكرهها البعض لأنها تحرمهم من عنصر "الخطأ البشري المحتمل"، والذي قد يكون في صالحهم أو ضدهم، ويُعتبر جزءًا من اللعبة. أُطلقت تقنية الـVAR في عام 2016، ووصلت إلى العالم أجمع من خلال كأس العالم 2018.

حكام كرة القدم

تدور التقنية حول تمكين الحكم من إعادة مشاهدة اللقطة، والتي يتابعها معه مجموعة من الحكام في غرفة مستقلة داخل أرضية الملعب، ليُبلغوه إن كان هناك أي خطأ يحتاج إلى النظر فيه، ويتابعون معه كل تفاصيل اللعبة. يتدخل الـVAR في أربع حالات فقط: الأهداف، ضربات الجزاء، البطاقات الحمراء، والتعرف على صاحب الخطأ الأصلي.

يظل الـVAR ثورة في عالم التحكيم، لكنه لا يزال يرتكب بعض الأخطاء، والتي تكون في الغالب من طرف الحكم نفسه. ورغم أهميته، يُنتقد دائمًا بسبب تأثيره على وتيرة المباراة، ولا يزال يخضع لتعديلات مستمرة على قوانين استخدامه، في محاولة لجعل مساهمته إيجابية قدر الإمكان.

الكرات الذكية والتعرّف شبه الأوتوماتيكي على حالات التسلل

تأخر الـ VAR في التعامل مع الأهداف المشكوك في أمرها، وبسبب التسلل بالذات، قررت الفيفا أن تقدم تقنية التعرف على التسلل في كأس العالم قطر 2022. تقنية لم تجبر عليها أي دوري، ومثلها مثل تقنية خط المرمى، سمحت بتطبيقها للبطولات المُقتدرة، وهدفها هي أن تحدد إن كانت الكرة لُمست في منطقة تسلل أم لا.

حكام كرة القدم

يستخدم النظام مجموعة من الكاميرات في الملعب، وكرة بداخلها مستشعر يلتقط كل لمسة للكرة، وفي حالة لمس لاعب متسلل للكرة وراء خط الدفاع، تُرسل إشارة إلى غرفة الـ VAR. تظل الكلمة الأخيرة للحكم، والذي يُبلغ من غرفة الـ VAR إن كان هناك تسلل فعلي أم لا، ويحق له أن يحتسب التسلل وقتها.

يحاول هذا النظام أن يتغلب على أزمة تأخر اللعب من الـ VAR، ليقطع شوطًا أكبر على الحكم في الوصول للنتيجة الصحيحة، وميزة هذه التقنية أنها تُتنج مقطع كامل يوضح التسلل، وترسله للقنوات التي تبث المباراة لتعرضها أمام الجماهير والمحللين، وهذا في محاولة لتبرير القرار الذي يأخذه الحكم.

وظيفة الحكم لا زالت قابلة للتطور مستقبلًا

يوضح هذا التاريخ الموجز لوظيفة الحكم نقطة هامة، وهي أن تطور دوره لم يتوقف يومًا. يسعى القائمون على كرة القدم دائمًا للوصول بها إلى مرحلة الكمال، ويُجمع الكثيرون على أن نقطة البداية لتحقيق ذلك تبدأ من الحكم.

ومع تطور تقنيات الرؤية بالحاسب، يرى بعض المختصين في الصناعة أن الحكم البشري قد يُستبدل خلال الثلاثين عامًا القادمة، ليحل محله نظام يعمل بالذكاء الاصطناعي، وستشهد الرياضة بالتأكيد تطورات في التحكيم خلال الأعوام القادمة، قبل أن نصل إلى هذه المرحلة.