01-أبريل-2025
ميازاكي في زمن الذكاء الاصطناعي

لقطة من فيلم "المخطوفة" للمخرج هاياو ميازاكي (استديو غيبلي)

لا أعتقد أن أحدًا لم ينشأ على أحد أعمال استديو غيبلي. بالنسبة لنا في هذا الشرق الأوسط الملعون، يعتبر المسلسل الكرتوني الشهير "عدنان ولينا" واحدًا من هذه الأعمال التي قدمها المخرج الياباني واسع الصيت، هاياو ميازاكي، مع الاستديو الذي أسسه بالشراكة مع إيزاو تاكاهاتا والمنتج توشيو سوزوكي. إذ اختار المخرج الأوسكاري منذ أولى أعماله التركيز على علاقة الإنسان مع الطبيعة، وانتقاد المجتمع الصناعي الذي يتسبب بأزمة التغير المناخي التي نعيشها اليوم في أقصى حدودها، دون أن ننسى أن هذا الاستديو هو أول من عرّفنا بنظرة الفلسفة اليابانية إلى الطبيعة ككائن حي له روح وقيمة.

لكن هذه الكلاسيكية التي احتفظنا بها للاستديو الياباني الشهير انتهت، مع إعلان شركة "أوبن إيه آي"، الجهة المالكة لمولد الذكاء الاصطناعي "شات جي بي تي"، عن إصدارها النسخة الأحدث "شات جي بي تي-40"، متيحةً لجمهور عريض إنشاء صور بأسلوب رسومات غيبلي اليابانية الشهيرة. هكذا، في زحمة الأحداث السياسية التي نعيشها، وجدنا أنفسنا وكأننا أمام صدام بين رومانسية الكلاسيكيات وسرعة التطور التكنولوجي، حيث يعطي الجمال الرقمي انطباعًا يجردنا من إنسانية التجربة الحقيقية للإبداع.

من المثير أن ميازاكي نفسه كان قد عبّر عن ازدرائه لمثل هذه الابتكارات التكنولوجية في مقابلة سابقة، بعد مشاهدته لعرض قصير لزومبي تم توليده بالذكاء الاصطناعي

من المثير أن ميازاكي نفسه كان قد عبّر عن ازدرائه لمثل هذه الابتكارات التكنولوجية في مقابلة سابقة، بعد مشاهدته لعرض قصير لزومبي تم توليده بالذكاء الاصطناعي. قال ميازاكي قبل أعوام: "من يصنع هذه الأشياء لا يدرك معنى الألم على الإطلاق". وأضاف بحدة: "أشعر بقوة أن هذا إهانة للحياة نفسها". هذا الموقف الصارم يعكس رؤية ميازاكي الإنسانية العميقة التي تتعارض مع تسليع الفن بواسطة الذكاء الاصطناعي، فهو يرى أن الإبداع يتجاوز مجرد إنتاج صور جميلة، ليكون تعبيرًا عن تجربة إنسانية صادقة.

لكن المفارقة لا تقف هنا. مع الإعلان عن خاصية إنشاء الصور بأسلوب غيبلي، سارع الرئيس التنفيذي لـ"أوبن إيه آي"، سام ألتمان، إلى منصة "إكس" قائلًا: "تستيقظ لتجد مئات الرسائل: انظر، لقد جعلناك تبدو كفتى أنيمي في أسلوب غيبلي!"، بينما أبدى الرئيس المشارك في البيت الأبيض إيلون ماسك، الذي كان قد دخل في نزاع قانوني مع ألتمان بشأن السيطرة على "أوبن إيه آي" نفسها، استهزاءً من الأمر، ناشرًا صورة له على شكل رافيكي من فيلم "الأسد الملك" مع تعليق ساخر: "موضوع اليوم".

في هذا المشهد المتشابك لأقطاب التكنولوجيا العالمية، يبدو وكأن العصر الرقمي بات وسيلة للتهكم والسخرية، بينما يحاول الفن الأصيل عدم الوقوع كرهينة لهذه الصراعات الاستغلالية. الموقف الحاد الذي تبناه ميازاكي تجاه الذكاء الاصطناعي يعكس خوفًا مشروعًا من اغتيال روح الإبداع في عالم تحكمه الخوارزميات. في المقابل، تتعامل شخصيات مثل ألتمان وماسك مع الذكاء الاصطناعي بروح من الدعابة واللامبالاة والثراء غير المحدود، وكأن هذه الأدوات مجرد ألعاب تقنية لترفيه الجمهور.

هذه المفارقة تلقي الضوء على الفجوة المتزايدة بين الإبداع التقليدي وتقنيات العصر الرقمي التي تغتال أصالة وإنسانية الفن باسم التقدم والتطور. لا تتوقف كبرى شركات الذكاء الاصطناعي عن استعراض قدراتها، وهذا الأمر يخلق وهمًا بإمكانية استبدال الإبداع البشري بمنتجات رقمية خالية من المشاعر أو الإحساس والعاطفة، وأقل ثمنًا، في الوقت الذي يواصل التطور الرقمي اغتيال الشغف بالجمال الطبيعي.

يرى الناقد، غاريث واتكينز، أن "اليمين تكوين غرائزي"، واصفًا ما يحدث على مستوى التطور الرقمي بأنه "مرحلة المحافظة ما بعد الحداثة"، وهنا يشير إلى أن هذه المرحلة تعكس منحًى خطيرًا في توظيف التكنولوجيا لأغراض أيديولوجية، حيث يتم استخدام الذكاء الاصطناعي لصناعة صور "ديب فيك" مسيئة، وابتكار نساء افتراضيات بهدف السخرية من الواقعيات، مستشهدًا بتوليد مقاطع لنجمة البوب تايلور سويفت وهي تتعرض لاعتداء جنسي، وعلى هذا ليس غريبًا أن يلجأ الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إلى توليد صور وفيديوهات عبر الذكاء الاصطناعي للانتقام من خصومه.

يُفهم من كلام واتكينز أن هذه الأدوات لا تقتصر على التشويه الشخصي، بل تتجاوز ذلك لتصبح وسيلة للتنمر الرقمي القائم على النوع الاجتماعي، وهذا يجعلنا نخلص إلى أن الذكاء الاصطناعي يتحول إلى أداة انتقام تملكها الجهات التي تسعى لتوطيد روايات مضللة وتشويه الخصوم، حيث تجسد هذه الظاهرة وجهًا قاتمًا للذكاء الاصطناعي، يتم فيها تزييف الواقع وتوجيه الرأي العام عبر أدوات يصعب التمييز بين حقيقتها وزيفها.

في هذا المشهد المتشابك لأقطاب التكنولوجيا العالمية، يبدو وكأن العصر الرقمي بات وسيلة للتهكم والسخرية، بينما يحاول الفن الأصيل عدم الوقوع كرهينة لهذه الصراعات الاستغلالية

لا يمكن تجاهل أن الذكاء الاصطناعي – رغم ميزاته الإيجابية في شؤون أخرى –  يقتل الفن ببطء من خلال اغتيال المعنى الإنساني. لم يكن الفن يومًا مجرد نتاج بصري أو سمعي، بل هو دائمًا تعبير عن تجربة فردية تعكس مشاعرنا وأفكارنا وأحاسيسنا، وعندما نعطي الخوارزميات فرصة التعبير عنها، فنحن أمام نسخة بلا روح. ومن المعروف أن الشركات المطورة للذكاء الاصطناعي لا تهدف إلى إثراء الثقافة بقدر ما تسعى لتحقيق الثراء، متيحة الفرصة لإنتاج كميات هائلة من المحتوى المرئي بسرعة فائقة.

علاوة على ذلك، فإن الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في الفن يرسخ ثقافة الاستسهال. إذ إنه عندما يتم إمطار الجمهور بأعمال فنية مصطنعة تفتقر إلى العمق، يتراجع الفكر النقدي للفن، ويفقد المتلقي والمتلقية تدريجيًا القدرة على التمييز بين العمل الذي يحمل رسالة فنية ذات بعد إنساني، وذلك القائم على توليد الخوارزميات الهجينة. والحال هنا لا يقتصر على فقدان الفن لهويته، بل يمتد إلى تهديد التنوع الثقافي.

يتعلم الذكاء الاصطناعي منا نحن البشر، من بياناتنا المحدودة. وغالبًا ما يعكس هذا التعلم توجهات نمطية سائدة على منصات التواصل الاجتماعي، مما يؤدي إلى إعادة إنتاج أنماط مكررة وتهميش الإبداع، بينما يُفترض أن يكون الفن ساحة للتحرر والإبداع بعيدًا عن القيود السلطوية أو الاجتماعية. لكن في ظل هيمنة الرأسمالية التي تسعى لاستغلال كل ابتكار لتحقيق الربح، وتحالف قوى اليمين العالمي التي تروج لتقليص دور الإبداع لصالح الإنتاجية، يصبح الفن مجرد أداة لإثراء الحسابات البنكية.