10-يناير-2025
تعتبر زيارة ميقاتي هي الأولى لمسؤول لبناني رسمي منذ سقوط نظام الأسد (منصة إكس)

تعتبر زيارة ميقاتي هي الأولى لمسؤول لبناني رسمي منذ سقوط نظام الأسد (منصة إكس)

 

منذ الإعلان عن تأسيس الدولتين بحدودهما الحالية خلال الانتداب، مرورًا بالاستقلال عن فرنسا، مرّ لبنان وسوريا بمنعطفات تاريخية مشتركة تغيّر فيها نمط العلاقة بين المدّ والجزر، مع استمرارية التشابك والتعقيد، وعدم نجاح أي منهما في اتباع سياسة النأي بالنفس عن الأحداث المصيرية للطرف الآخر.

أول مخاض مرت به السياسة بين البلدين كان بعد الانقلاب الذي قاده حسني الزعيم عام 1949، وبلغت الأمور ذروة تعقيدها مع أحداث عام 1958، التي كانت أول شرارتها رغبة بعض مسلمي لبنان في الانضمام إلى الدولة العربية الموحدة بين مصر وسوريا.

أول مخاض مرت به السياسة بين لبنان وسوريا كان بعد الانقلاب الذي قاده حسني الزعيم عام 1949

مع وصول حزب البعث إلى الحكم في سوريا، وهو الحزب الذي يعتبر أنّ لبنان إقليم تابع للقطر السوري، إثر انقلاب آخر عام 1963، زادت تعقيدات العلاقة، خصوصًا مع اضطراب الأوضاع الإقليمية وتواجد الفصائل الفلسطينية على الأراضي اللبنانية.

الحدث الفاصل في علاقة سوريا بلبنان كان عام 1976 مع دخول القوات السورية إليه تحت ذريعة قوات الردع التابعة للجامعة العربية إبّان الحرب الأهلية اللبنانية. ويذكر أن القوات السورية بقيت في لبنان كسلطة وصاية لمدة 29 عامًا، منها خمسة عشر عامًا بعد انتهاء الحرب الأهلية وتوقيع اتفاق الطائف، الذي حدّد إطارًا زمنيًا لانسحابها لا يتجاوز السنتين. ومع ذلك، لم تخرج القوات السورية من لبنان رغم المعارضة اللبنانية الشديدة لبقائها إلا بعد ضغوط دولية هائلة. وفي عام 2008، بعد مخاض عسير، أعلن بشار الأسد قيام علاقات دبلوماسية بين البلدين، وافتتاح سفارة سورية في لبنان.

خلال فترة الوصاية السورية، صودرت سيادة لبنان، حيث اتُّهم نظام دمشق السابق بتنفيذ سلسلة اغتيالات سياسية لمعارضيه داخل لبنان، وبعرقلة الحياة الدستورية اللبنانية وتقويضها، حتى أن سدّة الرئاسة لم يصل إليها إلا الرئيس المرضي عنه من قبل النظام السوري.

 

كيف تأثّر لبنان بالثورة السورية؟

لبنان كان من أشد الدول تأثرًا بالأحداث التي تتابعت في سوريا منذ عام 2011، بحكم الموقع الجغرافي. توافد مئات الآلاف من النازحين إليه إثر تدهور الأوضاع الأمنية، بدءًا من شهر أيار من العام نفسه. وحدث انقسام عمودي في المجتمع اللبناني وداخل أروقة السياسة في مقاربة المستجدّات على الساحة السورية.

ومع دخول مقاتلي حزب الله إلى سوريا لدعم نظام بشار الأسد، اشتدّ الانقسام اللبناني، وبدأت التدهورات الأمنية في عدة مناطق في لبنان، بدءًا من الاشتباكات في طرابلس بين جبل محسن وباب التبانة، وليس انتهاءً بمعركة فجر الجرود التي خاضها الجيش اللبناني على الحدود مع الجماعات المسلحة عام 2017.

 

العلاقات بين البلدين بعد الإطاحة ببشار الأسد

منذ سقوط نظام الأسد في الثامن من ديسمبر/كانون الأول الماضي، ينظر اللبنانيون والسوريون بكثير من الترقب والحذر إلى طبيعة العلاقات التي ستقوم بين البلدين.

رغم تفاعل الشعب اللبناني الكبير مع الحدث السوري حاليًا، والاحتفالات التي عمّت العديد من المناطق اللبنانية فرحًا بسقوط النظام، والتصريحات التي أدلت بها جهات سياسية ذات توجهات مختلفة والتي تراوحت بين التفاؤل البالغ والتهنئة والترقب الحذر، ورغم توافد مبعوثين من قوى ودول عالمية وإقليمية إلى سوريا لمناقشة الأوضاع المستجدة مع القيادة السورية الجديدة ممثلة بأحمد الشرع، لم تحدث أي زيارة من الجهات الرسمية اللبنانية حتى الآن.

ولم يزر أي مسؤول سياسي دمشق بعد الأحداث الأخيرة سوى النائب السابق وليد جنبلاط، الرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي، الذي زار العاصمة السورية بعد خمسة عشر عامًا من الانقطاع، على رأس وفد من نواب كتلة اللقاء الديمقراطي وشيخ عقل الطائفة سامي أبي المنى وعدد من مشايخ الدروز. وقد بارك للشعب السوري تخلّصه من الاستبداد، وتباحث مع الشرع ورئيس الحكومة الانتقالية محمد البشير حول مستقبل العلاقات اللبنانية-السورية. وحصل على تأكيد من القيادة الجديدة على احترامها لسيادة لبنان واستقرار أمنه.

 

عوامل تأخر الزيارة الرسمية اللبنانية إلى سوريا

تأخرت الزيارة الرسمية اللبنانية إلى سوريا لأسباب متعددة. فإضافة إلى اضطراب الموقف الرسمي اللبناني من الحالة السورية الجديدة، كان لبنان يعاني من شغور رئاسي وأوضاع سياسية غير مستقرة، خصوصًا بعد الحرب الإسرائيلية التي لا تزال تبعاتها مستمرة في التأثير.

جاء الاتصال بين أحمد الشرع ورئيس حكومة تصريف الأعمال في لبنان، نجيب ميقاتي، متأخرًا، ولم يسجل سوى اتصال آخر بين وزيري خارجية البلدين. إثر هذا الاتصال، تم الاتفاق على زيارة ميقاتي إلى دمشق على رأس وفد وزاري وأمني للقاء قائد الإدارة السورية الجديدة.

 

تطورات لبنانية مرتبطة بسوريا

شهدت الأحداث اللبنانية المتصلة بالملف السوري تطورات دراماتيكية منذ سقوط النظام، حيث أُطلق سراح تسعة معتقلين من سجون الأسد بعد فتحها. وشاعت أنباء عن فرار العديد من العسكريين والمدنيين المنتمين للنظام السابق إلى لبنان عبر المعابر غير الشرعية، ما دفع الأجهزة الحكومية اللبنانية إلى التصدي لتلك الحالات. وتعرّض الجيش اللبناني لإطلاق النار من مجموعات مسلحة على الحدود أثناء محاولاته إغلاق معابر غير شرعية.

فرضت الإدارة السورية الجديدة قيودًا مشددة على دخول اللبنانيين إلى سوريا عبر المعابر الشرعية، تضمنت حجزًا فندقيًا وحيازة الزائر اللبناني على مبلغ ألفي دولار أميركي، وحجز مواعيد مسبقة للزيارات الطبية، ووجود كفيل سوري، بالإضافة إلى إقامة سارية المفعول، مع فرض غرامات مالية ومنع دخول الأراضي السورية على المخالفين. وأوضحت الإدارة السورية أن هذه الإجراءات تأتي تطبيقًا لمبدأ "المعاملة بالمثل". ورجّح بعض الخبراء أن هذه الإجراءات قد تكون مؤقتة، إذ لم تُبلغ السفارة السورية في لبنان بها رسميًا.

يُذكر أن دخول اللبنانيين إلى سوريا كان يتم بمجرد حيازة الهوية اللبنانية أو جواز السفر. أما من الجهة اللبنانية، فإن دخول السوريين إلى لبنان، الذي كان يتم حتى عام 2015 بالهوية أو جواز السفر، أصبح خاضعًا لشروط ومعايير فرضها الأمن العام اللبناني نتيجة تضخم أعداد النازحين. ومع ذلك، بقيت حركة الدخول والخروج بالاتجاهين متاحة عبر المعابر غير الشرعية.

 

هل ستقوم جيرة صحيّة بين سوريا ولبنان؟

في حدث شديد الدلالة في السياسة، تم يوم الخميس 9 يناير/ كانون الثاني 2025، انتخاب قائد الجيش جوزيف عون رئيسًا للجمهوريّة اللبنانيّة، بعد شغور رئاسي دام عامين، وبعد جهود وتدخّلات دوليّة وإقليميّة وضغوط واضحة من الولايات المتحدّة الأميركيّة. هذا الحدث يؤسس لبداية مرحلة جديدة في حكم البلاد.

صباح الجمعة 10 يناير/ كانون الثاني الجاري، نقلت وسائل الإعلام تحديد يوم السبت 11 يناير، موعدًا لزيارة الوفد اللبناني المرتقب إلى سوريا، في إشارة واضحة إلى انتظار حكومة ميقاتي حدث انتخاب الرئيس الجديد، والبناء على مقتضى ذلك.

نقلت وسائل الإعلام تحديد يوم السبت 11 كانون الثاني، موعدًا لزيارة الوفد اللبناني المرتقب إلى سوريا، في إشارة واضحة إلى انتظار حكومة ميقاتي حدث انتخاب الرئيس الجديد، والبناء على مقتضى ذلك

يحمل العديد من الأطراف في السياسة اللبنانيّة توصيات وتمنّيات للمرحلة الجديدة، وذلك لتكريس قيام علاقة نديّة بين الطرفين. فقد توجه رئيس حزب الكتائب اللبنانيّة النائب سامي الجميّل، الذي كان على رأس الأحزاب المعارضة لعلاقة النظام السوري السابق بلبنان، بكتاب إلى رئيس الحكومة يطالب فيه الدولة اللبنانيّة باتخاذ إجراءات ضروريّة مثل: إلغاء معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق واتفاقية الدفاع والأمن بين البلدين، وحلّ المجلس الأعلى اللبناني-السوري وأمانته العامة، حصر العلاقة بين البلدين عبر السفارتين وفقًا لاتفاقيّة فيينّا، والكشف عن مصير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية وتعويض عائلاتهم، وإعلان يوم انسحاب الجيش السوري من لبنان يومًا وطنيًّا، وإعادة التحقيق في القضايا الأمنيّة والاغتيالات التي لطالما رُجّحت مسؤوليّة النظام السوري السابق عنها.

من جهة أخرى، ترى أطراف سياسيّة أخرى أنّ النظر في الاتفاقيات اللبنانيّة السورية ضروري، لكن لا مانع من الإبقاء على تلك التي تحفظ حقوق البلدين.

 

الموقف الرسمي اللبناني

المصادر المقرّبة من رئيس حكومة تصريف الأعمال نقلت عنه أنّ الموقف الرسمي اللبناني واضح؛ إذ يعتبر أنّ التعامل مع أي جهة تحكم سوريا حتمي، ولا مفرّ من التعاون والتنسيق الإيجابي، خاصة في المرحلة المقبلة.

أصوات أخرى اعتبرت أنّ ترسيم الحدود البحريّة والبريّة بين لبنان وسوريا، وحلّ مسألة مزارع شبعا والعرقوب، وحصر الدخول والخروج بين الدولتين بالمعابر الشرعية، تُعدّ من أكثر المسائل إلحاحًا بين البلدين في الوقت الراهن.

يحمل العديد من الأطراف في السياسة اللبنانيّة توصيات وتمنّيات للمرحلة الجديدة، وذلك لتكريس قيام علاقة نديّة بين الطرفين

الأبعاد الاقتصادية للعلاقة

على الصعيد الاقتصادي، يعوّل الكثيرون خيرًا على المرحلة الجديدة بين لبنان وسوريا. فاستقرار سوريا في المرحلة القادمة، والتأسيس لعلاقة متينة بين البلدين، من شأنه أن يحسّن حركة تصدير البضائع من لبنان إلى سوريا والعراق والأردن ومنها إلى دول الخليج. كما يمكن أن يسهم في ضبط حركة التهريب التي ازدادت بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة بسبب غياب الحواجز على الجانب السوري.

التساؤلات المطروحة

الجميع اليوم بانتظار عصر جديد للعلاقات بين سوريا ولبنان. فهل سيتزامن ذلك مع العهد الرئاسي الجديد في لبنان؟ هل ستفتتح زيارة ميقاتي المرتقبة هذا العصر؟ وهل سينجح البلدان في إرساء نمط جديد من التواصل القائم على احترام السيادة وحسن الجوار وضمان مصلحة البلدين؟ أم أنّ العراقيل المتراكمة عبر السنين والضغوط الدولية والداخلية ستعيق الخروج من هذا النفق المظلم؟