1. قول

ميناء سيدي بوسعيد: من زاوية الصوفية إلى أفق فلسطين

11 سبتمبر 2025
سيدي بوسعي
ناشطون في أسطول "الصمود" العالمي يتجمعون في ميناء سيدي بوسعيد، قبيل موعد الإبحار نحو قطاع غزة (Getty)
محمد العربي محمد العربي

على حافة الجرف الأبيض الذي يطل على خليج تونس، تتلألأ مراكب ميناء سيدي بوسعيد تحت أشعة الشمس، وأعلام فلسطين ترفرف فوق صواريها.
 
المشهد يبدو في ظاهره هادئًا وسياحيًا، لكنه في الواقع امتداد لذاكرة المكان المتراكمة، ذاكرة تتشابك فيها الروحانية والفن والسياسة، وتروي حكاية تحوّل المكان من زاوية صوفية إلى منصة للتضامن مع قضية عالمية.

من الزاوية إلى المرسى

كان جبل سيدي بوسعيد، المعروف قديمًا باسم جبل المنار أو جبل المرسى، موضعًا استراتيجيًا للمراقبة والدفاع عن قرطاج منذ القرن السابع قبل الميلاد وحتى مطلع القرن الثاني عشر. في القرن الثالث عشر، اختار الولي الصالح أبو سعيد الباجي (1156–1231م) هذا المكان المرتفع ليقيم زاويته، متفرغًا للتأمل والروحانية في زمن كان التصوف يتجذر في شمال إفريقيا. وعند وفاته، صارت الربوة تُعرف باسمه، وجذب المكان لاحقًا المتصوفين والمتزهدين الذين قصدوه طلبًا للسكينة والعلوم الدينية.

شهد شاطئ سيدي بوسعيد في 16 نيسان/أبريل 1988 اغتيال خليل الوزير (أبو جهاد) على يد وحدة من الموساد الإسرائيلي

مع مطلع القرن الثامن عشر، ومع ازدهار القرية حول الزاوية، بدأ المكان يشهد تحولًا جديدًا؛ حيث تمازجت الروحانية الصوفية مع الجمال الحسي والعمارة المتقنة. البيوت البيضاء ذات الأبواب الزرقاء المزخرفة، والأزقة الضيقة التي تزينها النقوش العتيقة، وروائح المشموم التونسي العابقة في الهواء، باتت جميعها علامات لهوية بصرية راسخة في تفاصيل الحياة اليومية للسكان. أما الميناء الصغير، الذي كان نقطة انطلاق للصيادين، فقد تحول إلى فضاء يربط بين العمل والجمال المعماري والفني؛ حيث تجتمع القوارب الراسية قرب الأرصفة البيضاء مع الألوان والزخارف لتشكل مشهدًا يجسد تفاعل الإنسان مع المكان عبر القرون.

بهذا الشكل، لم يعد الميناء مجرد نقطة صيد أو مرسى عابر، بل امتداد حي للزاوية الصوفية نفسها: مكان يعكس تلاقي التاريخ والروحانية والفن، ويظهر كيف أن كل زاوية وكل باب وكل رصيف يحمل قصة تتعلق بعراقة المكان، واستمراره كفضاء للعيش والجمال والتأمل.

المكان يقتصّ لنفسه

على الرغم من هدوء المكان وسحره، فقد شهد شاطئ سيدي بوسعيد في 16 نيسان/أبريل 1988 حدثًا مأساويًا ظل محفورًا في الذاكرة العربية والفلسطينية: اغتيال السياسي والمناضل الفلسطيني خليل الوزير (أبو جهاد) على يد وحدة من جهاز الموساد الإسرائيلي. 

العملية التي نُفذت عبر البحر باستخدام مراكب صغيرة، اخترقت الإجراءات الأمنية كافة في المنطقة، وأدت إلى مقتل الوزير وحارسه وعامل المنزل، لتحوّل الشاطئ من فضاء للجمال إلى شاهد على الألم والخيانة والاغتيال.

كان البحر، الذي لطالما احتضن حياة الصيادين اليومية، مسرحًا لجريمة هزّت المنطقة، فيما كانت الربوة الصامتة وشوارع القرية البيضاء تراقب كل شيء بصمتها التاريخي.

اليوم، يبدو الشاطئ نفسه وكأنه يقتص لنفسه بهدوء وسحر خاص: فمن هناك تنطلق مراكب وأساطيل كسر الحصار عن غزة، وكأن المكان يعيد توازن القوى الرمزية، محوّلًا الألم إلى أمل، والخيانة إلى تضامن. المكان ذاته، البحر نفسه، والربوة ذاتها، تحوّلوا إلى منصة للحياة لا للموت، ورمز حيّ لمقاومة الظلم واستعادة الكرامة.

اليوم، يبدو الشاطئ نفسه وكأنه يقتص لنفسه بهدوء وسحر خاص: فمن هناك تنطلق مراكب وأساطيل كسر الحصار عن غزة

الأمواج التي كانت شاهدة على حدث مأساوي، تصافح اليوم القوارب وهي تحمل الأعلام الفلسطينية، كما لو أن الطبيعة نفسها تشارك في الاحتفال بالحق والحرية. الربوة، الأزقة، الأرصفة البيضاء، وحتى مراكب الصيد القديمة، كلها عناصر تتحد لتذكّر الزائر بأن المكان يحمل ذاكرة متراكمة، يختزن الألم، لكنه يعرف كيف يقتص لنفسه ويعيد تشكيل الأمل. هنا، يصبح ميناء سيدي بوسعيد ليس فقط فضاءً عمليًا أو سياحيًا، بل رمزًا حيًا لتاريخ يمتد من زاوية الصوفية إلى نضال الشعوب والحرية.

موجة أخرى نحو الحرية

اليوم، يستعد أسطول كسر الحصار عن غزة للانطلاق من نفس الشاطئ الذي شهد قبل سنوات خيانة واغتيالًا هزّا الوجدان العربي والفلسطيني. الأرصفة البيضاء، البحر الأزرق، والربوة الصامتة تتحول من مجرد شاهد على مأساة إلى فضاء نابض بالدراما والأمل، حيث تتلاقى صفحات التاريخ القديمة مع الحاضر في لحظة واحدة. المشهد يستعيد رمزيته بهدوء وسحر خاص، محولًا الألم إلى إصرار حيّ على الحرية والكرامة.

كل موجة تضرب الأرصفة، وكل شراع يرفرف بالأعلام الفلسطينية، يروي قصة استمرارية النضال والمقاومة. الخيانة التي وقعت هنا قبل عقود تقابلها الآن شجاعة جديدة، والموت يتحول إلى رمز للحياة المستمرة. البحر والميناء والربوة جميعها تشارك في منح المعنى بعدًا جديدًا: إعادة كتابة التاريخ عبر أفعال حيّة تنبض بالمقاومة.

سيدي بوسعيد، الزاوية والميناء، لم يعد مجرد موقع سياحي أو تاريخي، بل أصبح رمزًا حيًّا للمقاومة، للحرية، ولذاكرة متراكمة لا تموت. هنا، تتحوّل كل موجة، كل قارب، وكل شراع إلى إعلان حيّ على أن الأمل يستمر، وأن الحرية قادمة مهما طال الزمن.

كلمات مفتاحية
ساذج نصار

في مديح امرأة فلسطينية قوية

اسمها ساذج نصّار (1900-1970)، وُلدت في الناصرة وماتت في دمشق، من أصول إيرانية، والدها بديع الدين بهائي كان مقيمًا في عكا

شارع الرشيد في غزة

من شارع الرشيد إلى القصيدة.. خريطة الوجع الأخيرة

ليس هذا فقط حكاية خسارة فردية: إنه ثمن سياساتٍ وحروبٍ ومؤامراتٍ تَسلبُ المدنَ وجراحَها، وتحوّلُ البياضَ إلى خريطةٍ للغائبين

برج كنيسة الفادي

بنحبك أستاذ عبود

بين مطعم "أبو خليل" و"كافيه زمن"، لاحظتُ عبارة كُتبت بالأحمر على جدار أحد البيوت. وقفتُ وقرأت: "بنحبك أستاذ عبود"، ولا شيء غير ذلك

قوات الدعم السريع
سياق متصل

الحرب في السودان: هل تلوح مؤشرات لوقف التصعيد؟

يبدو الوضع في السودان متأرجحًا بين خيار التصعيد أو الهدنة الإنسانية المقترحة من قبل الآلية الرباعية الدولية

الأفراح في اليمن (شبكات التواصل الاجتماعي)
فنون

الفن في زمن الحرب: الأعراس تعيد رسم خريطة الغناء اليمني

الأفراح والغناء اليمني

مهرجان اندي تشينا - Getty
نشرة ثقافية

الرقابة الصين تتسبب في إلغاء مهرجان سينمائي مستقل في نيويورك

الرقابة في الصين والمهرجانات الفنية

حي الشيخ رضوان
سياق متصل

تصعيد إسرائيلي مزدوج: حصار خانق على غزة واعتداءات مستمرة في الضفة الغربية

واصلت قوات الاحتلال الإسرائيلي فجر السبت شنّ غاراتها الجوية على قطاع غزة، في خرق جديد لاتفاق وقف إطلاق النار، بالتزامن مع تصاعد الاعتداءات في الضفة