جلست ليلانة في الباص الصغير الذي يوصلها إلى الحي الذي تسكن فيه في ضواحي جزيرة ألفابينولي الجنوبية، وضعت الكتب الجامعية على الكرسي جانبها. كان الرحالة جميلانو، الرجل الطاعن في السن، يجلس أمامها بعد أن عاد من رحلته الشهرية إلى وسط الجزيرة من أجل استلام الراتب الشهري الذي لا يكفيه إلا لعشرة أيام في الشهر. وخلفها كان يجلس عبدانو، جارهم الأمي الذي يحبها ولا يستطيع الإفصاح لها عن حبه خوفًا من العادات الاجتماعية التي تحرِّم الحب العلني.
كان السائق يحيانو يدندن كلمات الأغنية المُذاعة من راديو عربته القديمة، كانت أغنية شهيرة تقول: "ما للحب وما لقلبي، أما آن للعذاب أن ينتهي". حين أوقفه إسبانو العملاق، طلب منه وضع أغراضه في العربة وإيصالها إلى الحي، هو سوف يسبقهم مشيًا إلى هناك. كانت أغراضه مؤلفة من سبعة مصابيح حمراء، وعشرين خشبة طول كل منها سالمة ونصف وعرضها نصف سالمة، ووسادتين، وثلاثة أعلام للجزيرة بمقاسات مختلفة.
قالت ليلانة: "انتبه إلى أماكن خطواتك هذه المرة"، مذكرة إيَّاه بالطفل الذي دهسه أمس خلال تجواله في الحي.
اليوم السابق كان يومًا حافلًا بالنسبة لإسبانو العملاق، فهذا الشاب اللطيف الذي لم يمتلئ بطنه منذ مئة وستة وعشرين عامًا - أي منذ ولادته - كان بانتظار مفاجأة كبيرة. لقد قرر أهل الحي الفقير التضحية ببعض أموالهم، وببعض النفقات الخاصة بالأطفال، والنفقات المتعلقة بمشروعات تحسين خدمات الصرف الصحي، من أجل توفير طعام كافٍ لإشباعه. فاشتروا خمسين خروفًا من الرحالة المنتشرين في جهة الجنوب الغربي، وجلبوا صندوقًا كبيرًا مليئًا بالسمك الذي اصطيد خصيصًا لهذه المناسبة من النهر الذي يبعد خمسين كيلومترًا شرقًا عن مركز الجزيرة، ومئة وخمسة وعشرين رغيف خبز، خبزتها جدات الحي الثلاث خلال يومين كاملين، ومئة دلو من اللبن البارد. كان فرح الناس عظيمًا برؤية إسبانو العملاق وهو يلتهم الطعام، كان يأكل كل خروف حي بلقمتين، ومن ثم يشرب بعض اللبن، وبعد ذلك كان يلف سمكة بالخبز ويبلعها مرة واحدة، هكذا دواليك حتى أتى على الطعام كله إلا رغيف خبز واحد قدمه لطفلة كانت تنظر إلى طعامه بشهية.
سأل الرحالة جميلانو ذو العين الواحدة إسبانو العملاق: "ماذا تريد أن تفعل بهذه الأغراض يا إسبانو؟"، رد عليه: "لا أعرف يا جميلانو، طلب مني إسحانو نقل هذه الأشياء إلى الحي والتوجه إلى هناك"، قال الرحالة: "لا بأس... لا بأس، لكن تذكر ما قالته لك ليلانة، انتبه إلى أماكن خطواتك". لا يعرف أحدٌ من سكان الحي لماذا يُكنى بـ"الرحَّالة" وهو لم يرَ من العالم سوى الحي ومبنى تسليم الراتب الشهري، حتى إنَّه لا يعرف ماذا يوجد في الجهة الجنوبية الغربية.
وصل إسبانو العملاق إلى الحي في ثلاثين خطوة وجلس في موقف العربات الوحيد ينتظر وصول باص يحيانو الصغير كي ينقل الأغراض إلى بيت إسحانو. أصابته حالة من الكآبة حين رأى الأطفال يبتعدون عنه كي يلعبوا كرة القدم. تذكر كلام ليلانة وكلام الرحالة جميلانو. تذكر ما حدث أمس حين دهس طفلًا يحبو لم يرَه وهو يقفز فرحًا بسبب شبعه. قرر ترك الحي والعودة إلى بيته/كهفه، في الجبل، في الجهة الأخرى من بيت رشدانو، في الجهة غير المأهولة بالسكان. بقي معتكفًا لا يخرج إلى الناس لأكثر من خمسة شهور، كان يخرج ليلًا لفترات قصيرة يتصيد الكلاب الشاردة وبعض الذئاب المتجولة في المناطق غير المسكونة كطعام يعينه على الحياة. كان في كهفه يفكر في الأطفال الذين قتلهم دون أن يراهم لصغر حجمهم مقارنة بحجمه. كان يفكر في الناس الذين يحبونه على الرغم من قتله لأبنائهم وكأنه قدرٌ لا فكاك منه.
بدأت الأقاويل تنتشر في الحي عن رحيله أخيرًا عن الجزيرة كلها. كل الموجودين هنا وُلدوا وإسبانو العملاق بينهم، لا يدري أحدٌ تاريخه أو اسمه الحقيقي، أطلق عليه إسحانو هذا الاسم منذ خمسين سنة، أي حين كان إسحانو طفلًا لا يتجاوز العاشرة، بعد أن مات أخوه ذو السنوات الثلاث "إسبانو" حين دهسه إسبانو العملاق من دون أن يقصد وهو يتمشى في الحي.
إسحانو هو الأخ الأكبر لعائلة كبيرة تتألف من ثلاثة أولاد وأربع بنات؛ إسبانو الذي مات دهسًا بأقدام إسبانو العملاق، وإسكانو الشاب الذي لا يخشى شيئًا، وها هو اليوم بين الثوَّار يحاول اقتحام قصر الحاكم، وخيلانة وجيلانة وحيلانة وديلانة، الفتيات الأربع ذوات الشعر الأحمر اللاتي لا يمكن التفريق بينهن، لذلك يلعبن لعبة تبادل الأدوار والأسماء كلما أردن اللعب.
خرج إسبانو العملاق من بيته/كهفه حين ناداه إسحانو. كان الرجل واقفًا هناك بانتظار خروج صديقه العملاق. كان يعرف في قرارة نفسه أن إسبانو العملاق لن يغادر الحي من دون أن يقول له شيئًا أو أن يودِّعه على الأقل. فقد كان يعد إسبانو العملاق مثل أخيه إسبانو الذي قُتل. وكذا الأمر بالنسبة لإسبانو العملاق الذي لم يعرف شيئًا عن حياته السابقة، فذاكرته قصيرة مقارنة بباقي البشر.
"أهو بشر؟"، السؤال الذي يطرحه على نفسه دائمًا. السؤال الذي سأله الناس سنوات طويلة. لكن السؤال، على الرغم من ثقله، يختفي مع مرور الأيام، إن لم يثره أحد ما، من عقول الناس ويبقى عالقًا في عقل إسبانو العملاق. سؤال لا جواب عنه.
إسبانو العملاق، مثل باقي سكان مملكة أرخبيل بينولي، له الأعضاء الجسمانية نفسها، لكنها أكبر حجمًا بشكل غير منطقي، طول رجله اليمنى عشرون سالمة واليسرى أقصر بسالمة واحدة. لم يُعرف له قريب أو صلة بأي إنسان خارج الحي، تقول الأساطير إن أمه كانت غولة كبيرة تسكن بالقرب من بحر الشمال، وأبوه واحد من رجال رحالة الجنوب الغربي الأشداء. وقع الأب في حب الغولة فقرر الزواج بها، أوقعها في حبه وكانت نتيجة الحب هذا الولد الذي قتل أمه حين وُلِد. وُلِد هذا الشيء قادرًا على المشي وعلى التكلم بلغتين، لغة بينولي ولغة الغيلان.
كان إسحانو يعاتب إسبانو العملاق على انطوائه وعدم مشاركته في الأحداث العظيمة التي حدثت في الحي مؤخرًا، وعن الذين ماتوا من أهل الحي بسبب كتل النار الضخمة التي تهبط من السماء.
حدثه إسحانو عن الحصار وعن سقوط الناس جوعًا، بعد أن أراد سكان الجزيرة الثورة على الحاكم وإبداله بحاكم آخر.
حدثه بكلمات لم يعرف إسبانو العملاق معانيها، على الرغم من عمره الطويل لم يسمع بهذه الكلمات فهو لم يغادر الحي مطلقًا، والحديث المتداول هنا ذو كلمات قليلة.
أثناء وقوفهما شاهدا كتلة النار تسقط من السماء على الحي البعيد عن موضعهما. حمل إسبانو العملاق إسحانو على كتفه وركض به إلى مكان سقوط كتلة النار، كان بيت ليلانة قد هُدم ومات كل من في البيت، العائلة كلها. كان عبدانو يبكي حبه الضائع الذي اختفى تحت أنقاض البيت.
كان حزن إسبانو العملاق شديدًا، أراد أن يساعد الناس بطريقة ما. قرر بعد تفكير طويل، وبعد أن شاهد بعينيه عددًا كبيرًا من كتل النار تقتل الناس وتهدم بيوتهم، أن يقف في منتصف الحي ويفتح فمه الكبير الأشبه بفوهة بركان ويبتلع هذه الكتل النارية، فهي لن تؤثر عليه أبدًا، أكبر هذه الكتل أصغر من خنصره. هكذا وقف إسبانو العملاق يلتهم النار كما لو أنها سكاكر العيد، كان سكان الحي يتقافزون حوله جذلين كلما أكل إسبانو"هم" العملاق كتلة نارية جديدة. كان إسبانو العملاق يصيح بصوتٍ عالٍ، وكأنه يريد لقاذف كتل النار أن يسمعه: "ارمِ كتلك النارية كلها... ارمها هنا في فمي. سأبلع النار... كل النار". زال شبح الموت من السماء، إذ بقيَ إسبانو العملاق واقفًا هناك شهرًا بأكمله، لكن شبح الجوع كان يفتك بالناس.
امتلأ بطن إسبانو العملاق بكتل النار، لم يعد يحتمل المزيد، امتلأ عن آخره. قال للذين حوله مرات عديدة: "كتلة أخرى وأنفجر". لم يصدقه أحد، كانوا يريدون مظلة تحميهم من كتل النار. طلبوا منه أن يكمل مهمته. كان يفكر في أن يتركهم لوقت قصير كي يستريح، لكن إسحانو ترجَّاه بشدة، لم يرِد أن يخيب ظن من كان بمثابة أخيه.
عشرون كتلة نارية اتجهت نحوهم في وقت واحد. تلقى إسبانو العملاق هذه الكتل بفمٍ مفتوح فانفجر وتطايرت أشلاؤه وغطى لحمه شوارع الحي. رأى سكان جزيرة ألفابينولي في ذلك اليوم دماء إسبانو العملاق تصعد نحو السماء محمولة على كفوفه الضخمة. كان الناس مذهولين من هذا المنظر العجيب حين صرخ بهم الرحالة جميلانو: "اجمعوا لحمه وضعوه في مكان ما، ولنسرع إلى الملاجئ لأن كتلًا نارية جديدة ستنزل علينا قريبًا. لا تتخلصوا من هذا اللحم، ففي هذا الحصار لا طعام لدينا سوى لحم هذا الغول".
- الفصل الثالث من رواية "قاعدة الخوف الذهبية"، الصادرة عن "خان الجنوب"، والتي سيتم إطلاقها اليوم مساء في برلين. للتفاصيل هنا