يحضر الحاج رضوان إلى مكتب جاره الصول عبد الحميد –بإدارة المرور- كلما حان موعد تجديد رخصة سيارته التاكسي.
في ذلك الصباح الصيفي، راجع حضرة الصول أوراق الحاج، ثم تبيّن له أن الحاج نسي عقد شراء السيارة وهو يتعجّل الفحص، فطلب إليه العودة إلى بيته لإحضار العقد، حتى يتم التصديق على الأوراق فلا يتعطّل عن الانطلاق بالتاكسي يومًا آخر.
وخشي الصول أن ينطلق جاره العزيز دون أن يستلم الرخصة، فيعترضه أحد عساكر المرور فيحدث ما لا يُحمد عقباه، لذلك أصرّ أن يبعث معه أحد عساكر النبطشية. على بعد خطوات، يقف العسكري عيد مسترقًا السمع لحديث الرجلين، وما أن وصل حضرة الصول إلى اقتراحه الأخير، حتى صاح عيد برغبته في القيام بهذه المهمة. التفت الصول عبد الحميد إلى العسكري، نظرة ذات مغزى، لكن العسكري توسّل إلى الحاج رضوان كي يصحبه في هذا الصباح المفترج وسيجده طوع أمره.
توسّط الحاج لدى حضرة الصول، حتى أذن للعسكري بمرافقته، ولكنه حذّره من سلوك طريق سوق الخضار والفاكهة في غدوه أو رواحه. وراجع الحاج تحذير حضرة الصول، فهمس لنفسه: "لو لم يكن جاري بحارة الشونة، لظننته يجهل أننا نجتاز إلى بيوتنا طريق السوق في الذهاب والإياب، فهو أقصر الطرق". واستبعد أن يكون حضرة الصول يريده أن يسلك طريق الكورنيش الذي يضاعف المسافة.
وما إن جلس العسكري عيد إلى جوار الحاج رضوان، الذي انطلق بالتاكسي، حتى بدأ ثرثرته عن تاريخه بالخدمة ومعاملة حضرة الصول عبد الحميد التي لا تخلو من الأبوة. تشاغل عنه الحاج بتفادي الشوارع العمومية المزدحمة، ولم يلتفت إليه وهو يزيّن له العبور بسوق الخضار، ولكنه دهش عندما تحوّلت لهجة العسكري إلى التوسُّل أن يسلك طريق السوق. قال لنفسه:
- عسكري غلبان. ربما يريد أن يشتري لأولاده شروة بنصف الثمن.
وعند البوابة الجانبية للسوق، طلب إليه العسكري أن يسمح له بدخول السوق لحظة واحدة. أوقف الحاج التاكسي، وغادره العسكري، وهو يهرول وسط الزحام، مصيحًا:
- لحظة واحدة.. لحظة واحدة.
وطفق الحاج يتابع حركة العربات والدواب وهي تنقل الخضر ولفاكهة إلى داخل السوق، وأخذ يرقب الأرقام في ساعة السيارة.
ومرّت عشرات الثواني، ومئات الثواني، دون أن يعود العسكري من داخل السوق، وتحولت اللحظات إلى دقائق والدقائق إلى أجزاء من الساعة، فاعتبر ذلك العسكري فارًا من الخدمة، وقرر أن يدور بالتاكسي ليرجع إلى حضرة الصول. وما إن رآه الصول وقد عاد بمفرده، حتى انطلق يقهقه ساخرًا وهو يقول:
- عبرت بالسوق ولم تسمع كلامي.
ودهش الحاج كيف عرف الصول أنه عبر بالسوق. وقبل أن يتمالك أنفاسه ويبرر ضعفه إزاء توسلات العسكري، إذا بالعسكري يقتحم المكتب لاهثًا وقد تفصّد عرقًا، فانهال عليه حضرة الصول بالسباب وهو يصرخ فيه:
- تركت الرجل وتسللت إلى عنبر بلدياتك التاجر. تركت عملك الميري لتحوّل ما تحمل السيارات والدواب إلى عنابر السوق.
وأخذ العسكري يستحلفه بحق أولاده وأحفاده، ويذكّره بالملاليم التي تدفعها له الداخلية لقاء خدمته، وهي لا تكفي عشاء ولا علاجًا لأولاده وأمه. وأقسم له الصول أن ينزل به العقاب إن لم يستخرج ما أخفى من نقوده ليضعها أمامه، فأخذ العسكري يخرج ما أخفى من النقود في غطاء رأسه وبطانة سترته وسرواله فيضعها أمام حضرة الصول على المكتب، ثم التفت إلى الحاج وهو يقول معتذرًا:
- أكثر من أجرة نبطشيات الليل في شهر
وانشغل الصول بالنقود فأحصاها، ثم عاد إلى لعناته وهو يأمر العسكري بجمعها من على مكتبه والاختفاء من أمامه فورًا. هرول العسكري يفرّ من أمام حضرة الصول، الذي دعا الحاج ليجلس ويأخذ أنفاسه حتى يأتي الشاي.
اقرأ/ي أيضًا: