صباح الخير يا منى. إنه يومٌ آخر، مِن بُعدٍ ما أظنه قريب، أسمعُ صوتًا أليفًا يهمس بأغنية قصيرة عن الغيوم التي لا تنفرج إلا ليتلبَّد الإنسان. أغنية أحسبها عني، عنكِ، عن الغيابِ والفقد الذي اكتمل كالقمر.
إنني محتارة بينما تقفز الكلمات على طرف لساني كأسماكٍ صغيرة تحتضر. مرّ الوقت فعرفتُ كيف ألضم خرز حزني خيطًا أُطرّز به أسناني من خلف ابتساماتي المتوترة، ولم أعرف كيف لي أن أضم حلقات الكلام دون أن تُصيّرها الرتابة قيدًا أو لجامًا.
فعن أي شيء سأسأل، أعن حالكِ أم عن الريح إذ ما تهبُّ في سكون الأزل؟ عن الذاكرة إذ ما انطفأت أم عن الضحكات التي صمتت إلى الأبد؟
أضجرة أنتِ؟ هذي حياتي، تسليتي الأثيرة هي الحلم. كُلّما أغمضتُ عينيَّ رأيتُ سبع سماوات طباق تطبق كالأجفان في عناق الأرواح التي سلكت الوحشة فما هي إلا في ضلال مُّبين.
هذي حياتي، أجازَ العالمُ جرحي، ولم يبقَ سوى الندم. يجلسُ القرفصاء في زاوية العمر، يقضم أصابعًا ليست له، ويحدق في الحسرة كأنها قلبه.
ألستَ تملُّ، تيأسُ، تَجُنُّ؟
بلى، أمُلّ وأيأسُ وأجُنُّ. وأعلم أن أخبارًا حزينة تدلف رئة العالم، وأننا لا نفعل شيئًا هنا سوى الانتظار المُرّ. الأخبار السيئة تطويها أخبار أكثر سوءًا كأن تتعثر، في بلادي البعيدة، فتاة عشرينية في فوهة للصرف الصحي مغطاة بأمطار الإهمال، فيسقط، هنا، في المساحات الخضراء الشاسعة، قلبي.
نراقبُ ها هنا -بصبر العارفين أن هذا العالم سينتهي مختنقًا- أنفاسه المتقطعة. عينٌ على الزر الوحيد لجهاز التنفُّس الاصطناعي، وعينٌ أخرى على الأيادي الكثيرة التي ما زالت ترتجف.
مَنْ يضغط الزر؟ مَنْ يهدي العالم موتًا رحيمًا؟ مَنْ يعطينا أن تسكن آلامنا إلى الأبد، نحن الذين قارعنا القهر طويلًا ولم ننتصر، ولكن لسنا ننسحب؟
***
انقضت الأيام الجيدة، تلك الأيام التي ما كنا لنسميها كذلك إلا لأنها انقضت. كل الذي فقدتُ في الطريق إلى القارة العجوز يزحف في رأسي كدودٍ لزج. آه لو يمتلك المرء رأسه. آه لو تمتد اليد فتزيل، وتمحو، وترتب وتنفض الغبار. آه لو تعطني أوروبا أكثر بقليل مما أخذت منّي. لو أن مساعداتها الاجتماعية تغطي تكاليف القلق من التّشرد على أرصفتها النظيفة وتكاليف كل الدموع التي ذُرِفْت، والقلوب التي انتحرت على سكك قطاراتها السريعة.
ها أنا أرى عبر النافذة الكبيرة ثلج ألمانيا وصقيعها. أفكر في المجاملات الطويلة، في الأحاديث القصيرة الكثيرة مع الجيران عند مدخل البيت، داخل المصعد الكهربائي، أو على السلالم الطويلة، دون أن تنتهي، ولا لمرة واحدة، بدعوة لطيفة لدخول عالم الآخر الحقيقي، وإنما بالانسحاب التكتيكي للحاق بقطارات ندعي أننا نخشى أن تفوتنا، ولأصوات في رأسي أسمعها، مذ أغلقت بابي آخرة مرة، تتمتم: كم أكره "السمول توك" يا الله!
أفكر الآن في الشفاه الرخوة والابتسامات الأوروبية الصفراء، تلك الابتسامات التي لا تترك مجالًا للشك بأن هذا العالم مجرد فندق ضخم، وبأن الناس ليسوا سوى موظفي استقبال سمجين. وأن للحب معانيَ نفدت، دهستها أقدام الرأسمالية الناعمة، وبأننا أفرادًا وجماعات نزحف نحو حتفنا المحتم، نحو هاويتنا السحيقة بعد أن كان لنا قلوبًا قايضناها بالحداثة، بالإغراء اللذيذ للمادية، فصدقنا أنه لم يبقَ من الحب معنى سوى الكياسة.
لم يعد ينشد المرء شيئًا كثيرًا، يريد أغنية قصيرة يدندنها، وموتًا نظيفًا فحسب. سيقتله الفتور مثلما قتله الحياد، من ثُمَّ سيضمر كنبتة في الظل كلما أدرك أنه يفضل الفظاظة كآخر رد فعلٍ حقيقي يفوح برائحة الرومنسيات الزائلة.
يشي الطقس بأهله، والبرد الذي يقرس عظام الغريب لا يتأثر بالاتجاهات، فلا الناس تزداد دفئًا جنوب القارة كما يُشاع، ولا شمس هذه البلاد من طبع الدفء في شيء.
***
لا درّ درّ الأيام. أبكانا ما أسرنا وكأنها طريقة الحياة في قول كلمتها وطريقنا الطويل لبلوغ حكمتنا الموجعة.
يُعلّقنا الخوف من حناجرنا، فينقطع الصراخ. وأنا رأيتُ بلادًا تحترق خارج المجاز، ومدنًا تفتح ساقيها لشهوة الموت، لوابل الرصاص. مدن أفلت، ونجوم لمعت في سائلها المنوي كآخر ومضة للضوء.
الدُّنيا حريق مستعر، النار تطهر حتى السحر، تغسل أكثر مما يفعل الماء، والعالم غافٍ في رماده منذ فجر بعيد. لو أن يدًا تقبض عليه من كتفيه، تهزه بقوة حتى يفتح عينيه على اتساعهما، فتتساقط منهما جذوة اليأس أو تنطفئ.
أفهمُ، الآن، شهوة نيرون الجامحة في أن يحرق روما. أفهم رغبة رجل في أن يحرق مملكته، ثم يدير ظهره لها بينما يعزف القيثارة، ويغني، وربما يبكي! نيرون الذي يشبهنا أكثر بكثير مما تقول الأساطير، لم يمت. روحه التي ما تزال تتدفق في أوردة المدينة العظيمة، تسيل أبدا من عينيّ روما المقاتلتين كلما حدّقتا في وجوه الأحبة والغرباء على حد سواء.
***
لكل شيء مهما صغر أو عظم حكمته الخاصة: الألم حكمة الجسد. يقول الأطباء: "الألم أداة تنبيه ودلالة على العَرض الحاضر أو الغائب كالآلام الشبحية لأطرافنا المبتورة".
فكم أراد أن ينبهنا الألم، وكم دلَّ علينا، ولكننا ما انتبهنا كم نحن ننقص كلما مضينا في الحياة؟
أفكر بكِ كثيرًا في هذه الأيام. حلَّ الشتاء قاسيًا هذا العام. البرد يصيبني بانتكاسة دائمة، متكررة. أواسي نفسي بكرم عالم غيب لا أعرفه فأقول في سري: "أقله إنك دافئة هناك" فالرعشات من صفات الدُّنيا لا السموات العاليات.
أُقلّبُ الأمر في قلبي كُلّما قلّبتني الكوابيس. أعتقد أنني لم أعد غاضبة. طالما أن الأمر مرتبط بقلبي، من باب الدقة سأقول: "أشعر أني لم أعد غاضبة". المشكلة أني لا أعرف كيف أساوم. لم أتوصل بعد لطريقة أُلقي فيها اللوم على الحياة والحظ والناس ونفسي دون أن تتمزق الأفكار في رأسي كخياطة رديئة كلما حاولت أن أدرزها ثقبت الإبر قلبي.
ولكن عليّ أن أقبل الأمر يا منى، أعلم ذلك جيدًا، ولا شيء غير القسوة ينفع الآن.
لم نكن نعرف أن موتًا وشيكًا يتربص بنا حين تبادلنا العتاب آخر مرة، ولكننا رأينا الأشياء التي عرفناها بشكل متأخر تمد ألسنتها الملتوية تسخر منّا. كانت تنقصنا القوة. ما زالت تنقصنا القوة.
القوة أن تسمح لنفسك أن تستعرض ضعفها، تفترشه وجه الشمس دون هول الخوف من البلل، أو الغرق النهائي، أو الاحتراق أو مرايا الآخرين التي تعكس صورتك المتشققة في عيونهم.
كُنّا نتماسك من كثرة ما ننتبه إلى الناس في ضعفنا، ولم يكن ليختبئ المرء خلف إصبعه، ولكننا كثيرًا ما كُنّا نتوارى في الكلام.
لا شيء ينفع الآن، نجرُ وِرْد الحزن ونعلّقه تميمة للأسماء التي سنطلقها على أبنائنا الذين نخطط أن نقذف بهم إلى هذا العالم، فيستمر الغثيان.
لا شيء ينفع الآن، سوى الغيوم التي تنفرج لتشتعل السماء ويهدأ الإنسان.