لم يجد قائد القوات الكرواتية في البوسنة والهرسك سلوبودان برالياك طريقة للاحتجاج على الحكم الصادر بحقه من قبل محكمة لاهاي إلا أن يتجرع السم على الملأ صارخًا: "لستُ مجرم حرب، وأرفض التهم"، ولم تفلح محاولة إنقاذه في مستشفى المدينة.
يبقى السؤال الكبير: لماذا ينتحر مجرم حرب في قاعة المحكمة أهو اليأس أم الندم؟
القائد الكرواتي سلوبودان برالياك متهم بارتكاب جرائم حرب كبرى أثناء الحرب في البوسنة والهرسك بين أعوام 1992- 1995، ذهب ضحيتها الآلاف من مسلمي البوسنة، في أبشع جرائم التطهير العرقي الديني.
اقرأ/ي أيضًا: شعراء عرب منتحرون
أسئلة كبيرة أثارها الانتحار العلني للرجل المسن، 72 عامًا، من بينها كيف تم إدخال السم إلى قاعة المحكمة لتجسيد هذا المشهد التراجيدي، وأما السؤال الكبير: لماذا ينتحر مجرم حرب مثل سلوبودان برالياك في قاعة المحكمة؟ أهو اليأس أم الندم؟
في الطرف الآخر من الموت الإرادي تطل قامة الشاعر اللبناني خليل حاوي من على شرفته في بيروت، وهو يطلق الرصاص على رأسه محتجًا على مشهد الدبابات الإسرائيلية في المدينة التي أحبها بجنون... مدينته التي تدوسها أقدام جنود الاحتلال.
البعض فسّر هذه الجرأة على تفتيت الرأس بأنها آخر أنفاس الهزيمة العربية، التي اعترت أرواح المثقفين والمفكرين العرب، إذ تطرق الأحذية النجسة بوابات مدنهم العريقة بقسوة، وهم دون قدرة على الفعل وحتى التعبير.
فيما ذهب آخرون إلى أن الشاعر خليل حاوي في يأسه يذهب ربما إلى مطارح قصية من الموت الروحي، قبل أن ينهزم الجسد برصاصة أو جلطة، وأن خليل حاوي حاول سابقًا أن ينتحر مرتين أو ثلاث مرات، لكن الأخيرة نجحت عام 1982 من هول الموقف... كل هذه الرؤى لم تجرد موت خليل حاوي من قداسته، حيث جاءت الطلقة في الزمن والمكان المناسبين؛ هنا الحرب وهناك بيروت التي تتداعى.
بين الشاعر والقاتل لحظة يأس فاصلة، بين انتحارين كلٌّ في معناه الكبير والمجازي يوصل إلى نتيجة واحدة وصدى مغاير. لن يكون القائد الكرواتي إلا مجرمًا وقاتلًا أراد أن يهرب بجبروته في القتل إلى النهاية، ولن يكون موت خليل حاوي إلا لحظة حاسمة للتعبير الشجاع عن مدى الذل، وسخط يصل بالجسد إلى السقوط في تعبير نهائي عن عجز الكلمة أن تفي بمكنونات الروح التي تفر من حوضها اللحمي إلى السماء.
بين الشاعر والقاتل لحظة يأس فاصلة، بين انتحارين كلٌّ في معناه الكبير والمجازي يوصل إلى نتيجة واحدة وصدى مغاير
في رمزية السم، أراد القاتل الكرواتي سلوبودان برالياك أن يموت ببطء، ربما ليشهد تعاطفًا ممن يحملون جسده الذاهب على مهل إلى نهايته، وأما الشاعر خليل حاوي فأرادها في الرأس مرة واحدة تصمت الحركة مع رجوع صدى الرصاصة التي تستعجل الرحيل.
اقرأ/ي أيضًا: قائمة غير مكتملة للشعراء العرب المنتحرين
في قصيدته "الجسر" حيث تبدأ تداعيات الرضوخ لفكرة الرحيل... يترك خليل حاوي لمفرداته أن تحمل أولئك الماضين نحو حتفهم من أجل تغيير مصائر الشوق الحارّ إلى شرق وليد، لم يكن أحد يتوقع أن يتشظى دويلات ورايات.. هنا أو الآن حيث لا أحد يملك القدرة على وضع لنزيف الروح الكبير:
يَعبرونَ الجِسرَ في الصبحِ خفافًا
أَضلُعي امتَدَّتْ لَهُم جِسْرًا وطيدْ
مِن كُهوفِ الشرقِ، مِن مُستنْقعِ الشَرقِ
إِلى الشَّرقِ الجديدْ
أَضْلُعي امْتَدَّتْ لَهُم جِسرًا وطيدْ
سوفَ يَمضونَ وتَبْقى
صَنَمًا خلَّفَهُ الكهَّانُ للريحِ
التي تُوسِعُهُ جَلْدًا وَحرْقًا
فارغَ الكَفَّيْنِ، مصلوبًا، وحيدْ.
اقرأ/ي أيضًا: