كان تسلسل الأحداث سريعًا. روائي شاب وباحث في القانون، تعتقله قوات الأمن بمدينة صفاقس، جنوب تونس، صباح الخميس 22 كانون الأول/ ديسمبر الجاري، تنقطع أخباره لفترة، تنشط فيها مواقع التواصل الاجتماعي تنديدًا واستنكارًا وإشاعات أيضًا، ثم تعلم عائلته مع مساء اليوم ذاته أن ابنها في مقر إحدى الفرق الأمنية بالقرجاني في العاصمة التونسية. ماذا فعل؟ ماهي تهمته وهو الشاب المثقف المتحصل على جائزة رامبورغ للثقافة والفن سنة 2016 عن روايته "هرب"، وهو الناشط في المجتمع المدني بجهته والحقوقي الطموح؟.. لنعد إلى التفاصيل.
الروائي التونسي الشاب حمادي الخليفي ينشر صورة يعتبرها ساخرة على "فيسبوك" لكنها تتسبب في إيقافه وتحويله للتحقيق
هو محمد الخليفي، أو حمادي الخليفي كما ينادى بين المقربين منه، 24 سنة، متحصل على الإجازة في القانون الخاص من كلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس ويواصل دراسته في مرحلة الماجستير وكان من المنتظر أن يشارك اليوم الجمعة في مناظرة الالتحاق بالمعهد الأعلى للمحاماة، ليكون أحد محامي تونس المستقبل، لكنه وإثر نشره صورة "ساخرة" على حسابه الشخصي في موقع "فيسبوك"، حسب تقديره وتقدير أهله والمقربين منه، يجد نفسه قيد البحث والإيقاف وأمام مصير مجهول.
يظهر في الصورة الرئيس الباجي قائد السبسي صحبة حارسيه الشخصيين، وكتب عليها تعليق ساخر مُستوحى من اغتيال السفير الروسي بأنقرة يوم الاثنين المنقضي. يقول فراس الخليفي، أخ محمد، لـ"الترا صوت": "كان حمادي في منزلنا في صفاقس حين اتصل به إقليم الأمن بصفاقس المدينة صباح الخميس وأعلموه بضرورة الحضور إلى إقليم الأمن، قدموا إلى المنزل ورافقهم للتحقيق".
اقرأ/ي أيضًا: زهير اليحياوي.. شهيد الإنترنت التونسي
توقعت العائلة ومعظم رفاق محمد أنه لن يتأخر عن العودة. يفسر شقيقه الأمر: "عرفنا أن الأمر يتعلق بتدوينة له على فيسبوك، أخي أكد لي أنها تندرج في إطار السخرية ولم تكن لديه أي نية للتحريض على القتل، كما أنه عادة ما يعتمد أسلوب السخرية في منشوراته على مواقع التواصل الاجتماعي". ويوضح: "عندما فهم محمد أن البعض أخذها على محمل الجد، قام بمحو الصورة سويعات قليلة بعد نشرها لكن يبدو أن صفحته كانت مراقبة أو أن البعض وشى به، إذ بناء عليها تمت دعوته للتحقيق".
لا أحد من عائلة محمد الخليفي أو من أصدقائه، إلى حد كتابة هذه الأسطر، يعلم محتوى التحقيق معه أو التهمة الموجهة إليه بشكل واضح، وقد أكد لـ"الترا صوت" شقيق محمد الخليفي وعدد من أصدقائه أن "الاستماع لأقواله في مركز أمن صفاقس تم بشكل فردي دون حضور محامين، إذ لم يتمكن أي محامي أو ناشط حقوقي من الالتحاق به أو التواصل معه.
تؤكد مريم بريبري، ناشطة حقوقية في جهة صفاقس ومن أصدقاء محمد الخليفي، رواية شقيقه، وتقول: "لم يتمكن المحامون المتعهدون بالقضية في صفاقس من مقابلته، نظرًا لتزامن إيقافه مع انقطاع التواصل معه هاتفيًا، اتصلوا بعدد من مراكز الأمن الذين نفوا وجود محمد عندهم وهو ما لم يمكنهم من معرفة مكان منوبهم".
هكذا انقطعت أخباره بسرعة وأغلق هاتفه وارتفعت الأصوات المساندة له على مواقع التواصل الاجتماعي. يذكر فراس الخليفي لـ"الترا صوت": أنه "بعد مرافقة حمادي إلى مركز الأمن بصفاقس، انقطعت كل أخباره إلى مساء الخميس حيث تم الاتصال بالعائلة بشكل رسمي وإعلامهم أن ابنهم في فرقة مكافحة الإجرام في القرجاني قيد الإيقاف والبحث، وقد عينوا محاميًا لمتابعة القضية في انتظار أن تتجلى تفاصيلها أكثر مع الساعات القادمة".
تؤكد مريم بريبري بدورها أن المنشور، سبب الإيقاف ظاهريًا، هو ساخر أساسًا وتوضح: "كانت نيته المزاح لا أكثر، ودليل ذلك أنه لما أحس أن البعض أخذوا الأمر بجدية، قام بإلغاء التدوينة ووضح أن الأمر يتعلق بمزاح لا أكثر لكن بعض المواقع الالكترونية المحلية واصلت نشر التدوينة وأخذت حجمًا متزايدًا وانتشارًا أوسع".
وكانت رئاسة الجمهورية، عبر مستشارة الرئيس سعيدة قراش، قد صرحت أن "الرئاسة لم تقم برفع شكوى بالشاب حمادي الخليفي" وأن "رئيس الجمهورية، ورغم امتعاضه من عديد التوصيفات في حقه، فإنه سيبقى ضامنًا للحقوق والحريات ويفضل دولة بفائض من الحريات على دولة قمع"، مؤكدة في الآن ذاته أن "حرية التعبير لا تعني الثلب ولا التحريض على القتل". وترجح تصريحاتها أن تكون النيابة العمومية في تونس قد رفعت الشكاية في حق الخليفي لا مؤسسة الرئاسة.
اقرأ/ي أيضًا: "خدمة العللاء".. السخرية كسلاح للتغيير
في الأثناء، انتشر خبر اعتقال حمادي الخليفي على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، على هاشتاغ #سيب_حمادي وتراوحت التعليقات بين مساندة مطلقة للشاب، خاصة ممن أشادوا بأفكاره النقدية ورؤيته الساخرة وتكوينه الثقافي، وواصل بعضهم سخريته من الرئيس الباجي قايد السبسي، فيما وجه له البعض لومًا على اعتبار أن السخرية والمزاح كان هذه المرة على قدر من الحدة والخطورة، بالنظر أيضًا إلى منصبه وهو يعمل منذ شهر تشرين الأول/أكتوبر الماضي كمختص في القانون في هيئة الحقيقة والكرامة، في المكتب الجهوي بصفاقس، وهي الهيئة المكلفة بمتابعة مسار العدالة الانتقالية في تونس.
الهيئة التي "يتربص بها"، حسب عديد المتابعين، أعداء كثر، سرعان أن أصدرت بلاغًا ليل الخميس أكدت فيه عزلها حمادي الخليفي من مهمته، وهو ما أكده شقيقه فراس الخليفي. وجاء في نص البلاغ: "تعلم هيئة الحقيقة والكرامة أنها قامت بإنهاء العلاقة الشغلية مع العون المتربّص السيد حمادي الخليفي يوم الأربعاء 21 ديسمبر 2016 إثر معاينة قيامه بخطأ مهني جسيم متمثل في خرقه لواجبي التحفّظ والحياد المنصوص عليهما في القانون الأساسي للعدالة الانتقالية والنظام الداخلي للهيئة، وذلك بعد الاطلاع على نشرية له على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك بتاريخ 20 ديسمبر 2016".
الهيئة أيضًا أكدت احتفاظها بـ"حقّها في تتبّع كل شخص أو جهة تستغل هذه الحادثة بهدف تشويهها والمس من هيبتها"، حسب ما جاء في نص ذات البلاغ.
استغل البعض تدوينة حمادي الخليفي لبدء حملة ضد جزء من المجتمع المدني التونسي من خلال اتهامهم بالعمل الاستخباراتي والمشبوه
ويبدو أن "قضية الصورة الساخرة" لحمادي الخليفي تتجه نحو أخذ منحًا آخر فقد تم توظيف عمل الخليفي بضعة أشهر مع منظمة "أنا يقظ" قبل أن يغادرها في سبتمبر/ أيلول الماضي، وهو ما أكده لـ"الترا صوت" مهاب القروي، المدير التنفيذي للمنظمة، لبدء حملة تشويه لعمل المجتمع المدني في تونس. وتعتبر "أنا يقظ" من أشهر الفاعلين في المجتمع المدني التونسي بعد الثورة، وهي منظمة رقابية تونسية غير ربحية ومستقلة تهتم بتدعيم الشفافية ومراقبة الفساد المالي والإداري بشكل خاص.
اتضح ذلك بعد تخصيص قناة نسمة، قناة خاصة تونسية، جزءًا من برنامجها الأهم مساء أمس للتنديد بتدوينة حمادي الخليفي مع التركيز على نشاطه ضمن المجتمع المدني وخطورة التدخل الأجنبي عبر هذه الجمعيات. في إطار هذا البرنامج التلفزيوني، يقول أسامة الخليفي، من مؤسسي حركة الفصل الثامن الشبابية وأحد أعضاء حزب نداء تونس: "ما يحصل الآن في المجتمع المدني في تونس على غاية الخطورة لأن المنتمين إلى هذه الجمعيات لهم خطاب حاقد على الدولة وهم ممولون أجنبيًا، المخابرات صارت تعمل على مستوى الجمعيات وبشكل مقنن، إنه صراع بين معسكر الوطنية ومعسكر التبعية للمخابرات والأجانب وسنقف من جانبنا ضد أنا يقظ وغيرها".
ويرى متابعون للمشهد التونسي أن تهمة "الإساءة للغير على شبكات التواصل الاجتماعي"، وهي تهمة حمادي الخليفي على الأرجح، قد تكون التهمة الجديدة الأكثر تداولًا لـ"تكبيل" الناشطين في مختلف المجالات في الشأن التونسي. وذلك إثر انتشار خبر إحالة الطاهر الطاهري، أحد الناشطين البارزين في منطقة جمنة بالجنوب التونسي، على أنظار المحكمة الابتدائية بقبلي يوم الأربعاء المقبل 28 كانون الأول/ ديسمبر بعد تنديده في تدوينة له على فيسبوك بما اعتبره "تمارض وتغيب بعض أطباء مستشفى قبلي".
وفي آخر تطورات قضية الحمادي وأوضحها خرج مساء الجمعة 23 من كانون الأول/ديسمبر الجاري المحامي شرف الدين القليل مؤكدًا تحويل قضية الروائي الشاب حمادي الخليفي إلى المحكمة الابتدائية بصفاقس.
وفي اتصال مع الترا صوت أكدت الناشطة الحقوقية مريم بريبري على أن قضية الخليفي تتم تحت المرسوم 115 المتعلق بحرية الصحافة والطباعة والنشر. في حين أوضح محامون أن المرسوم المعني يتعلق بالمؤسسات الصحفية وليس بالتواصل الاجتماعي، ما يحيل إلى بطلان إجراءات الدعوى.
اقرأ/ي أيضًا: