يحمل "مهاجر"، الشاب الكردي، في قلبه غلًا من تنظيم "داعش". وقد ساهم في تجييش غضبه ما وقع في "كوباني"، ومن قبلها معركة تحرير "تل معروف"، التي يعتبرها "يوم الفتح" بعد احتلالها ليوم واحد على يد التنظيم الإرهابي منذ عامين. يصف مهاجر، الذي جعل الله له من اسمه نصيبًا، قرية "تل معروف" بـ"الشاهدة على كفر المجاهدين" قبل أن يروي لـ"الترا صوت" ما جرى.
نصيب "تل معروف" من عقاب "داعش" هو الأوفر والأعنف، كانوا يعتبرونها منطقة بكرًا لابد من فتحها، فأهلها بالنسبة لـ"داعش" كافرون يجب قطع رؤوسهم
لكن لماذا هذه القرية السورية تحديدًا؟
نصيب "تل معروف" من عقاب "داعش" هو الأوفر والأعنف، فالقرية واسعة، حدودها بعيدة، عدد سكانها كبير، مميزة عن أغلب قرى سوريا، كانوا يعتبرونها منطقة بكرًا لابد من فتحها، فأهلها بالنسبة إلى مجاهدي ومفتي "داعش" كافرون يجب قطع رؤوسهم، إذ إنّ أغلبهم صوفيون ينتمون إلى الطريقة النقشبندية، وعائلة محمود الخزنوي، الذي يتولى رئاسة الطريقة ترتكز هناك، ومن حولها مزارات وأضرحة ورجال جلّ ما يبحثون عنه في الحياة هو "قطعة صوف" ووليّ صالح يتقرَّبون إلى الله على يديه.
اقرأ/ي أيضًا: استراتيجية داعش للتجنيد..الشباب أولًا
إذا كانت لديك معلومات كافية عن الوضع الآن في سوريا ستقول: "هاجم داعش القرية واحتلها يومًا واحدًا وخرج"، والرد جاهز، وهو أن بصماته خلال اليوم الواحد لا يمكن نسيانها، فقد شهدت القرية ممارسات لا تنسى لم تسلم منها حتى بيوت الله، لكن مهاجر يحمل من الحكايات عن التنظيم وجحيمه وسقوطه هناك، في قرية أولياء الله، أكثر مما ينبغي.
ولماذا قصد "شياطين داعش" تل معروف تحديدًا؟
يقول مهاجر: "تكمن أهمية البلدة، التي تتبع مدينة "تربسبيه"، وتبعد عنها 20 كيلومترًا، في مكانها الجغرافي وقربها من الطريق الدولي الذي يؤدي إلى بلدة "اليعربية" الحدودية مع العراق، وباتجاه الآبار النفطية المنتشرة على امتداد الطريق، مرورًا بـ"تل علو" وقطع الطريق الدولي، إضافة إلى قربها من مدينة "قامشلو". وتتميّز برمزيتها الدينية لكونها مقصدًا لآلاف الزوار من دول عربية وإسلامية، نظرًا لوجود مقامات لشيوخ الطريقة النقشبندية من آل الخزنوى، ومعهد الشيخ أحمد الخزنوي للعلوم الدينية والشرعية".
"تل معروف" بالنسبة لسوريا مثل "قم" و"مشهد" بالنسبة لإيران، و"القدس" بالنسبة لفلسطين، ليست مكانًا وحجارة إنما مركز إشعار ديني، ترتاح إليه روحك، ويحجّ إليه الناس سنويًا. بنفسية "حملة السيف والمصحف"، لا يريد "داعش" مركزًا دينيًا غير أميره، وعاصمته، يريد للناس أن تحجّ إليه، تلتقط منه البركة، وتدفع الزكاة وصكوك المغفرة، ويستسلم لأميرها كالميت بين يديْ مغسله، كما يستسلم أهل الله للأولياء.
"تل معروف" بالنسبة لسوريا مثل "قم" و"مشهد" بالنسبة لإيران، و"القدس" بالنسبة لفلسطين، ليست مكانًا وحجارة إنما مركز إشعار ديني
خرق "داعش" عهده مع وحدات حماية الشعب الكردية فجر يوم 26 من شباط/فبراير الماضي، واخترق "تل معروف"، ودارت معارك عنيفة بين جيش التنظيم والمقاتلين الكرد. بدت القرية أمام محاولة إبادة.
ركعت لـ"داعش"، التي بدأت عمليات حرق وسلب ونهب واجتياح لليابس قبل الأخضر، واختطفت 20 طفلًا وفتاة.
اقرأ/ي أيضًا: طلبة الرقة في مواجهة "داعش"
الله لا يمر من هنا
"تجولت فى القرية التي لا تزال حتى اليوم مهجورة، سكانها لم يعودوا إليها حتى الآن طلبًا للسلامة، رصدت ووثقت جرائم "داعش" التي لا تزال آثارها قائمة وشاهدة على همجية هؤلاء الذين يدعون أنهم يريدون إقامة دولة الإسلام".
الصمت الرهيب يفرض سطوته على القرية، تسمع صوت الريح فقط، الطرقات خالية وعلى جانبيها بيوت مفتوحة الأبواب بطريقة توحي أن أصحابها كانوا يهربون من الخطر، جدران كثيرة مهدمة، سيارات محترقة، محال محطمة الأبواب ومنهوبة، والمساجد مجرد أطلال بعد تدميرها على يد "المسلمين مجاهدي داعش".
يمكن أن تتخيَّل وتدوّن مشهدًا أمامك، هدم مساجد وأضرحة "تل معروف"، كان مهيبًا وضخمًا ومرعبًا، بيوت الله تتهاوى بلا سبب، ومدرعات تهاجم من يحتمي ببيوت الله، وتفضّها من كتبها وسجاجيدها ومئذنتها، فقد تحوَّل في هذا الموقف، بالنسبة إلى "داعش"، إلى "قلعة العدو الحصينة"، وليست بيت الله.
المشهد الثاني يكشف عادات وتقاليد هدم المساجد عند "داعش"، حتى هذه لابد أن يكون لهم فيها طقوس سرية وعادات وتقاليد، ففي اعتقادهم أن المساجد لها مئذنة واحدة، وغير ذلك حرام.
حين تمكّن التنظيم من "تل معروف" هذه الليلة بدأ رجاله يجوبون القرية رافعين هتافات عن شرع الله، فجَّروا مآذن المسجد، وأبقوا على واحدة فقط، وكتبوا على جدرانه: "دولة الإسلام في العراق والشام".
داخل المسجد، أوغل ولاة داعش في إهانة بيوت الله، آثار الحرائق على الجدران، مصاحف محترقة على الأرض، ولا تزال على السجاد آثار أحذية جند التنظيم
داخل المسجد، أوغل ولاة داعش في إهانة قدسية بيوت الله، آثار الحرائق على الجدران، مصاحف محترقة على الأرض، شروخ وحروق في أجهزة التكييف والمراوح، الشبابيك مكسورة، ألواح الخشب تتساقط من المنبر، وسجاد الأرضية لا تزال عليه آثار بيادق وأحذية جند التنظيم.
كانت كلمات مهاجر دالّة بأكثر مما ينبغي: "في طريقنا إلى الخط الأمامي للجبهة، مررنا بعدة قرى مجاورة لتل معروف، جميعها هرب منها أهلها عقب الهجوم الداعشي، منها شرموخ الكبير وشرموخ الصغير، وحاريكا وهي قرية سريانية، وهذا يكفي لتنصب عليها نيران الحقد في قلوب مقاتلي داعش، ما أبشع أن تسقط في جحيم التنظيم، ما أقسى أن تكون في بلدة تحت رحمة "داعش".
بصراحة.. جئنا لقطع الرؤوس
لا يتوقف "داعش" عن منح ضحاياه ذكريات. لا يتوقف عن الكتابة على الجدران، لديه وهم يشبه وهم الإخوان في مصر، ويبدو أنه وهم متأصِّل لدى كل الجماعات التي تبحث عن عرش، يعتقدون أنهم يحكمون البلاد بما يكتبونه بارزًا على الجدران.
في تل معروف، حملت جدران البيوت "المحررة" من قبضة التنظيم: "محجوز.. الدولة الإسلامية في العراق والشام»، وتعني أن "داعش" صادرت البيت بعد هروب أهله، وشهدت القرى المجاورة مشاهد تشبه ما جرى هناك، في المدينة السورية الصوفية، ففي مدينة "حلبجة" بكردستان العراق، كتب مقاتلو "داعش" على أغلب جدران البيوت جملة ترجمتها: "جئنا لقطع الرؤوس".. ثم حرقوها!
اقرأ/ي أيضًا: