ظلّت الهويّة التونسيّة أكثر مسألة شغلت الجيل الأوّل من المصلحين منذ أواخر القرن التاسع عشر. سيطرت بعد الاستقلال قراءة الحبيب بورقيبة التاريخيّة على كلّ القراءات الأخرى، والتّي رسّخها في الفصل الأوّل لدستور لأوّل جمهوريّة تونسيّة كان بورقيبة رئيسها "تونس دولة حرّة مستقلّة، الإسلام دينها والعربيّة لغتها"، نفس الفصل الذي حافظ عليه صانعو الدستور الجديد لما يسمّى الجمهوريّة الثانية.
يعالج كتاب "التونسيّون: الأصول والألقاب، الحملة البورقيبيّة لتهذيب الألقاب" خطّة الدولة الناشئة لتهذيب الألقاب بعد الاستقلال
يعالج كتاب "التونسيّون: الأصول والألقاب، الحملة البورقيبيّة لتهذيب الألقاب" (دار سوتيميديا، 2018) خطّة الدولة الناشئة لتهذيب الألقاب بعد الاستقلال. المؤلف محمّد علي الحبّاشي باحث تونسي، من مواليد 1953، وهو كذلك صحفي ومؤرّخ. أصدر قبل ذلك "عروش تونس" (2016).
اقرأ/ي أيضًا: أبواب تونس العتيقة.. حكايات التاريخ والحضارة
في الحقيقة، كانت سجلات الحالة المدنيّة وتسجيل أسماء المواليد والأشخاص من أوكد التحدّيات التّي واجهت الإدارة البورقيبيّة، إذ لم يكن يأبه التونسيّون بهذه المصلحة الإداريّة التّي أنشئت سنة 1925 من طرف الاستعمار الفرنسي بهدف ضبط قائمات من بلغوا سنّ الخدمة العسكريّة أو الأشخاص المطالبين بالأداءات.
تونس: وراثيًّا هي أوروبيّة أكثر منها عربيّة!
تنسب بعض المصادر لبورقيبة أنّه قال "ما يربطنا بالعرب ليس إلّا من قبيل الذكريات التاريخيّة وأنّ اجتياز البحر الأبيض المتوسّط أسهل من اجتياز الصحراء الغربيّة"، لهذا السبب تمسّك كثيرًا بمفهوم الأمّة التونسيّة، وقاوم بشراسة كلّ من كان ضدّ نظريّته وأشهرهم صالح بن يوسف، صاحب الفكر القومي العروبي.
وفق دراسة أمّنها المشروع الجينوغرافي الذي تديره مؤسسة "ناشيونال جيوغرافي" تحت إشراف سبنسر وال منذ سنة 2005، تقول: "تونس التّي اختيرت لتمثّل المغرب العربي، 4% من سكانها من العرب و88% من الشمال إفريقيّين (أمازيغ) و5% من الأوروبّيين، وراثيًّا هي أوروبيّة أكثر منها عربيّة!!". استنتاج كان من ضمن معلومات وإحصائيّات ميّزت هذا الكتاب الذّي قدّم بحثًا أنثروبولوجيًّا وتاريخيًّا واجتماعيًّا لأصول المجتمع التونسي وتاريخ توافد الجاليات عليه، خصوصًا منذ منتصف القرن الخامس عشر.
الأندلسيّون بعد سقوط غرناطة، الأتراك، المغاربة (اللّيبيون والجزائريّون والمغاربة)، الأوروبيّون والزنوج. جاليات انصهرت في النسيج التونسي، على سبيل المثال كانت هناك فرقة عسكريّة نظاميّة "عسكر زواوة" مكوّن من الجالية الجزائريّة. تذكر المصادر التاريخيّة كذلك أنّ الأقليّة الأفريقية المستعبدة تمتّعت بحريّة مطلقة في ممارسة طقوسها غير الإسلاميّة، قبل أن يصدر مرسوم إلغاء الرقّ سنة 1841 الذّي كان قرارًا سابقًا لعصره في المنطقة والعالم، حتّى أنّه مع وفاة كلّ باي حسيني -آخر سلالة ملكيّة حكمت تونس- يتمّ عتق عدد من العبيد ويرافقون النعش وفي رقابهم وثائق عتقهم. كما أنّ المسلمين واليهود جمّعتهم أخوّة الرعاية وفق أول دستور عربيّ سنة 1861، ومبدأ المساواة هذا كان سابقة غير معهودة اعتبارًا للإرث الدينيّ والتاريخيّ.
الوجاهة بين المجد المكتسب ومجد النسب
تكوّن النسيج السكاني التونسي حتّى أواسط القرن التاسع عشر من بلديّة (سكّان مدينة تونس) وأعراب (سكان دواخل البلاد والأرياف)، إلى حدّ قرار وضع حدّ لعادة غلق أبواب مدينة تونس العتيقة في وجه سكّان الأرباض سنة 1861. صدمت عائلات البلديّة العريقة من تدفّق ذلك السيل العارم من الريفيّين الغرباء، ما جعلهم ينزحون إلى أحياء جديدة انتشرت في أوائل القرن العشرين وفترة ما بين الحربين العالميّتين
احتكر البلديّة المناصب والخطط الوظيفيّة السامية لعدّة قرون، لكن مع تدفّق الأعراب أو الآفاقيّين مكّنهم من الارتقاء إلى صفوة رجال العلم والأدب والسياسة والتجارة لكن بشيء من المعاناة. فإذا احتاج البلدي إلى خمس سنوات للارتقاء من رتبة إلى أخرى فإنّ الآفاقيّ احتاج إلى تسع سنوات، وبذلك انضاف أصحاب المجد المكتسب إلى أصحاب مجد النسب في الحصول على مراتب الوجاهة مثل إبراهيم الرياحي، والمؤرّخ والوزير أحمد بن أبي ضياف. ومن أشهر العائلات التّي ارتقت إلى مناصب الوجاهة: الأصرم، البكوش، جلّولي، زرّوق وبن عاشور وغيرهم... لكن بقيت علاقات المصاهرة بين العائلات البلديّة فقط، عدا الأتراك والأندلسيّين، ولا حظوظ للغرباء للفوز بإحدى بنات مجد الحسب والنسب إلاّ من كان من أصحاب المجد المكتسب.
على كلّ تونسي أن يملك وجوبًا لقبًا عائليًا
بعد إعلان الجمهوريّة سنة 1957، أنهى بورقيبة ما كان للأسرة الحسينيّة الحاكمة من حصانة وامتيازات، ووصل به الحدّ إلى حرمان أفرادها من لقب "باي"، معوّضًا إيّاه لهم بألقاب "الحسيني" و"بن حسين" أو "العادل"، وبذلك دشّن الرئيس الجديد رسميًّا حملة تهذيب الألقاب للتونسيّين جميعًا.
بعد إعلان الجمهوريّة سنة 1957، أنهى بورقيبة ما كان للأسرة الحسينيّة الحاكمة من حصانة وامتيازات
قضى القانون رقم 53 المؤرخ في 26 أيار/مايو 1959 بأن "يكون لكلّ تونسي لقب عائلي وجوبًا". وكانت أغلب الألقاب، في تونس وأحوازها والمدن الكبرى الرئيسيّة، ذات منحدر عروشي بسبب موجات نزوح اضطراري وجماعي ارتبطت بمجاعات أو أوبئة أو مصادرة أراض. زادت سياسة التعاضد التّي قادها وزير بورقيبة أحمد بن صالح الطين بلّة. لهذا السبب شملت حملة -في ستّينات القرن العشرين- لتغيير الألقاب والتخلّص من الكنيات الموروثة المرتبطة بعامل جغرافيّ أو عرقيّ أو جهويّ أو حرفيّ أو حتّى بتشوّهات جسديّة وخلقيّة. وهو ما جرده عمل محمد علي العثماني بالتفصيل -في مجهود جبّار- ووفق كلّ أقليم ومدينة معتمدًا على عديد البحوث والمراجع والسجلاّت والوثائق والدوريّات.
اقرأ/ي أيضًا: تونس.. "الخلدونيّة" مدرسة التحديث والمقاومة
كان دافع بورقيبة الحقيقيّ وراء هذه الحملة القضاء على العروشيّة والقبليّة بالمجتمع التونسي، لأنّ الألقاب ليست مجرّد هويّة لتعريف مواطن ما، بل تنطوي على أبعاد سوسيولوجيّة ومؤشّر لمدى تجذّر مفهوم المواطنة. ورغم إتاحة بورقيبة حقّ التعليم والصحّة والرعاية الاجتماعيّة للجميع، فإنّ نظامه رسّخ إشكالية الجهويّة في تقسيم الثروات وإسناد المناصب العليا، توزّع 62.7% من وزراء بورقيبة على أربع جهات فقط وهي تونس العاصمة والمنستير وسوسة وصفاقس، مع العلم أنّ منصب الوزير الأوّل كان يسند إلى شخصيّة من ولاية المنستير-مسقط رأس بورقيبة- منذ الاستقلال إلى حدود سنة 1986. فجّرت أحداث 14 كانون الثاني/يناير 2011 المكبوت وبدت هشاشة مفهوم الأمّة التونسيّة وزاد الانقسام حول الهويّة، وفشل التونسيّون إلى الآن في تحقيق ما هو مطلوب من تجانس على أساس المواطنة ودولة القانون والمؤسسات قوّة وفعلًا.
اقرأ/ي أيضًا: