فيما تدور الأرض من حول كرة الشمس، يتوالى نهار وليل على لبنان وفق وتيرةٍ روتينية تنهال معها التطورات السياسية ويزداد تأزّم الأوضاع الاجتماعية، في ظل واقع اقتصادي رتيب يقطع ركوده صعود وهبوط استثنائي محكوم بالظروف المحليّة والخارجيّة. الأحداث المفتوحة على كل الاحتمالات، تواكبها حوادث اعتادها المواطن وإن على مضض، ليس آخرها اختطاف ابن زحلة البقاعية السبعيني سعد ريشا واقتياده إلى بريتال البعلبكية واشتراط إطلاقه إلى الحرية بدفع فدية مالية.
خطف المواطن اللبناني سعد ريشا باتجاه بريتال وعادت البلدة الحدودية إلى الواجهة كمنطقة خارجة عن القانون
عملية الخطف التي انتهت "على خير" ودون دفع ليرة واحدة بعد إيفاد رئيس مجلس النواب نبيه بري بسّام طليس ابن "حركة أمل" وبريتال معًا، ليفاوض الخاطفين عبر وسطاء أوصل الحادثة إلى خواتيم سعيدة، ليست الأولى في لبنان بعامة ولا البقاع بخاصة. وهي أعادت في ما أعادت إليه من مشهدية تصدّع الأوضاع الأمنية، أرجعت إلى الواجهة بلدة بريتال التي توصمها الحوادث المتكررة منذ عقود بتهمة "الخروج عن القانون"، لاسيما وأن جرائم كالخطف وسرقة السيارات تصوّب البوصلة إلى بريتال وتضع أهلها في كادرٍ إجرامي هو الصورة النمطية التي ترسمها الإشكالات وتلوّنها الأحكام المسبقة. فهل بريتال خارج حدود الجغرافيا اللبنانية، وخارج حدود الدولة السياسية والقانونية؟.
اقرأ/ي أيضًا: لماذا يستعيد اللبنانيون ملف النفايات مع الشتاء؟
ترتفع بريتال فوق جبال لبنان، ولا تقع. هي البلدة الممتدة على مساحة 4297 هكتارًا فوق ألف ومئة وخمسين متر ارتفاعًا عن سطح البحر، تلامس الحدود السورية في جهتها الشرقية وتتصل وتتواصل مع الداخل اللبناني بعاداتها وتقاليدها، بخضوعها لرياح الظروف المحلية والطبيعة التي تصيبها تارةً بآلام الوطن، وتغطيها تارة أخرى بالثلوج التي تزيّن بيوتها وتكلّل أشجارها.
ليست بريتال خارج المعادلات الوطنية، وإن كانت خارج اهتمام السلطة. فالبلدة الحدودية مهمّشة إنمائيًا كالكثير من البلدات الشمالية والجنوبية وجاراتها البقاعية، إلا أنها تؤدي في كل مرّة قسطها للوطن عند الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة عليه. فهي التي قدّمت شهداء عند العدوان، تعيش الحياة السياسية وإن بعُدت عن المركز، وما الحراك السياسي فيها والذي يكرّسه انتماء عدد كبير من أبنائها إلى أحزاب فاعلة بقاعيًا، ويتبلور في الانتخابات النيابية والبلدية، إلا دليل على حيويّتها ونظرتها إلى السياسة على أنها واحدة من نوافذ إدخال الإنماء إلى البلدة إن كانت الأبواب إلى ذلك موصدة.
قلة من أهل البلدة ذاع صيتهم بسرقة السيارات والاتجار بالمخدرات والخطف والقتل بشكل مأجور فجعلها جهة يحظر دخولها
في الجغرافية الطبيعية، ستبدو بريتال وفق المتناقل عنها والذي سينفر اللبنانيين من زيارتها، مقفرة وجرداء. لا حياة فيها، ولا ألوان. بلدة هي مجمّع كبير للسيارات المسروقة وخردتها، وسجن كبير لكل المخطوفين وبيئة حاضنة لكل المجرمين الذين يصبحون ويمسون على "تزييت" أسلحتهم وتوضيب مماشطها وعدّ الأموال الطائلة التي يحققونها من الفديات. لكنها في واقع الحال، واحدة من "بازل" الأراضي اللبنانية الخصبة التي تُزرع فتنبت زرعًا وأشجارًا فثمارًا.
من فوق بريتال ترتفع شمسٌ تضيء سماءها، ثم تميل عند المغيب لتُلوّن الأفق بحُمرة يمتزج معها ضوء النهار بشيء من ظلمة الليل. الأراضي المنبسطة المزروعة، والهضاب التي تتوزع بين صخورها أشجار الصنوبر، تنسكب عليها الأشعة المتساقطة فتنعكس من بينها أنوار تتلألأ معها الأرض البكر التي لم تفتن بجمالها بعد عيون كثير من اللبنانيين.
أبناء البلدة، الذين يقرب عددهم العشرين ألف نسمة، بينهم ما يقل عن مئتي مطلوب إلى العدالة، وهو عدد لا يبرر أبدًا الصيت الذي يلاحق بريتال، ما يعني أن الأغلبية الساحقة من المواطنين هم من أبناء الدولة والخاضعين لأحكامها وقوانينها، ويسعون في الأرض لتأمين قوت أبنائهم تحت سقف قانونٍ يحمل شهادات في أصوله ومبادئه الكثير من البريتاليين خريجي الجامعات اللبنانية الخاصة والرسمية. في بريتال كما يؤكد أحد أبنائها الطبيب والمهندس والتاجر والفلاح، وهؤلاء جميعًا يأكلون من أرض البلدة ويشربون من مائها، فما ذنبهم إن خرجت عن أعرافهم وأخلاقهم قلّة قليلة تحصّل مالها من "الحرام" وتبتز الناس بممتلكاتها المسروقة؟.
اقرأ/ي أيضًا: