ما يقع في الريف المغربي ما هو إلا شكل من أشكال أزمة العقل السياسي المغربي، و إن شئنا التدقيق في القول، فما نشاهده ونعاينه اليوم ما هو إلا تفريغ لعقد وكبت نحو التسلط وشطط في ممارسة السلطة، مع التمادي في التعامل مع المواطنين كرعايا ومريدين محجور عليهم وعلى حيواتهم.
فالمشكل الحقيقي ليس في الحسيمة ولا الحل هناك أيضًا، فحتى لو حُلّت كل المشاكل في تلك الرقعة الجغرافية وحُققت كل المطالب التي رفعها المحتجون فإن المشكل الأساسي لن يحل، وإن حدث شيء فغالبًا ما سيكون مجرد جرعة مهدئة لإطالة أمد داء دون البحث عن الدواء الحقيقي؛ ببساطة لأن دون التشخيص السليم للمرض فلا يمكن أن يكون هناك علاج فعال وتام، وستبقى كل الوصفات مجرد مضيعة للوقت وهو ما يجعل التكلفة تزداد كلما تأخر الأمر.
فالحقيقة المغيبة هو أن رد فعل السلطة اتجاه حراك الريف ما هو إلا تعبير عن إشكال أعمق، إشكال متمثل بالخصوص في فهم واستيعاب من يحكمون البلد لمفهوم السلطة ولمعنى الميثاق الذي من المفترض أن يحكم علاقة المواطن بالدولة، إن الأمر ما هو إلا تعبير عن حجم العطب الذي أصاب عقل مركز السلطة.
رد فعل السلطات اتجاه حراك الريف، ليس إلا تعبيرًا عن حجم العطب الذي أصاب عقل مركز السلطة
تجد مراكز القرار نفسها أمام حالة اجتماعية واقتصادية "عصرية"، لكن في نفس الوقت نجد أنفسنا أمام نخب تكنوقراطية تشتغل بعقلية مخزنية تقليدية، هي من تم تكليفها بحل المشكل. نخب تشتغل وفق منطق خاص، وهو منطق لا يخضع للضوابط والشروط القانونية أو الدستورية، كما هو مفترض في أي دولة عصرية تحكمها مؤسسات مستقلة وممثلة للشعب، الأمر الذي جعل بقعة الزيت تتسع يومًا بعد آخر، دون أن يفهم الماسك بزمام السلطة أن مكمن الخلل والمشكل الحقيقي يوجد في تلك النخب بالذات، في المنطق الذي تدير بها كل أمور الدولة -بالنيابة- وليس فقط ملف حراك الريف.
اقرأ/ي أيضًا: بعد مسيرة الرباط الحاشدة.. هل انبعثت روح "20 فبراير" من جديد؟
إن مشكلة السلطة والحكم المركزي في المغرب أنه لم يؤسس يومًا لدولة مؤسسات، وإنما أسس لدولة "أوامر". ومشكلة الدولة أنها لم تستطع أن تتخلص يومًا من جلباب "السلطنة" والذي هو أقرب لنظام الحكم الديني، وبالتالي كانت تتعامل مع من يعيشون في نطاق ترابها كرعايا مملوكين يجب أن يكونوا في خدمتها وتحت طاعتها، بدل العكس، الذي هو أن يتعامل معهم كمواطنين تكون السلطة ومؤسساتها من يجب أن تكون في الخدمة، بما يجعل طبيعة العلاقة مقلوبة من الأصل.
وحتى مع التطور التاريخي وما طرأ على المجتمع من تحولات، إلا أن النظام السياسي في المغرب لم يستطع يومًا التخلص من "خطيئة التأسيس" تلك، إذ ظل وفيًا ومحافظًا على نمطه التقليدي المنبثق من القرون الوسطى، وكانت تجديداته مقتصرة فقط على تكييفات وتغييرات طفيفة بما يتماشى مع ضرورات الحياة الحديثة، دون أن يمس ذلك المضمون والعمق.
بل وحتى مع الفرصة التي كانت فيها القطيعة مع هذا، أي مع فترة الاستعمار الفرنسي، إسوة بما هو معمول به مع بلدان مثيلة، فالذي وقع هو العكس، حيث سعت فرنسا إلى الحفاظ والإبقاء على المخزن، بل وتوظيفه في سياسته الاستعمارية. و بمجرد جلاء فرنسا وجدنا أنفسنا أمام نظام هجين بوجهين حداثي/تقليداني، دون أن تكون له الشجاعة الكافية للحسم في اختيار أحدهما بشكل مطلق.
هذه الازدواجية في الحكم والسلطة أفرزت لنا شكلين متوازيين في بنية الدولة، شكل أول هو المتحكم الحقيقي في زمام الأمور وهو الذي يدير كل المؤسسات الوازنة والحساسة داخلها، و هو ما يطلق عليه عادة بالمخزن أو الدولة العميقة أو حتى السلطة الموازية، ومع تعدد الأسماء لكن المضمون واحد، وهو أنها لا تمثل الشعب ولا تخضع لأي محاسبة من قبله، كما أنها لا تشتغل إلا بمنطق الأوامر، ووفق تراتبية تنطلق من الملك وتنتهي بآخر العنقود الذي هو "المقدم"، إذ هي شبيهة بنموذج أمني أو عسكري.
أما الشكل الثاني فهو إحدى إفرازات دولة الاستقلال، حينما حتمت الظرفية إنشاء مؤسسات حديثة شبيهة بما هو موجود في كل الدول كبرلمان ومجالس منتخبة ووزارات... إلخ. هذا الشكل يتم توهيمه بالسلطة فقط دون أن يمتلك منها شيئًا، فحتى مع وجود دساتير وقوانين تمنحه إياهاـ إلا أن الواقع يجعلها مقتصرة على الفئة الأولى فقط، لكن وعلى الرغم من ذلك فهي مجبرة على وضع الحساب أمام الشعب وتخضع له كما أنها تكون منبثقة منه.
جزء كبير من أزمة النظام وتلخبط النسق السياسي، ناجم من أنه أُسس على قواعد قروسيطة بائدة وثيوقراطية غير واضحة
فلنأخذ مثلًا نموذجًا لأحد المطالب الواضحة والبسيطة التي نادى بها جزء كبير من النخبة المجتمعية غير المخزنية، فمنذ استقلال المغرب تعاقبت الدساتير فتعاقبت النداءات بقيام نظام برلماني بمجلس تشريعي ناشئ عن اقتراع شعبي حر، غير أن المبادرة تبقى بموجب "القانون المقدس" بين يدي العاهل من حيث هو المُبَايَع بالإمارة العظمى، إذ يسند إلى الملك سلطة التشريع خارج الأحكام الدستورية، فالدستور نفسه يكرس ثنائية المرجعية، البيعة من جهة (سلطة إمارة المؤمنين)، والقوانين الدستورية الوضعية من جهة أخرى، ما يجعل منطق "الأوامر" بدل القوانين هو القاعدة والميثاق الذي يعلو ولا يعلا عليه.
اقرأ/ أيضًا: هل سلطان ملك المغرب فوق كل السلطات؟
ومرد هذا ليس فقط لتسلّطية النظام وتوظيفه للقوة القهرية المتمثلة في وزارة الداخلية كعنصر محوري وأساسي للضبط والإخضاع، أوعلى الأجهزة الأمنية والعسكرية كآليات احتياطية للمساعدة على الأمر، لكن لا يمكن أن نفسر موقف أغلبية شعبية خاضعة للحرمان من كثير من الحقوق وتبدو راضية عن ذلك دون استحضار ذلك القمع الممزوج بالأفكار والمعتقدات، التي تقوم بدور "أفيون للشعب".
يفسر هذا كذلك وجود أغلبية شعبية دائمة البحث عن أقصى تقرب من مركز يوزع النعم والثروات والنفوذ، كما أنها مستعدة للتضحية ومنح نفسها كقربان لخدمة المركز، وهو ما يسري تقريبًا على الفئة التي يطلق عليها حاليا بـ"العياشة".
فجزء كبير من أزمة النظام وعطب المنظومة وتلخبط النسق السياسي، ناجمة لأنه أُسس على قواعد قروسطوية بائدة، ومحكوم بقواعد ثيوقراطية ولاهوتية غير واضحة، أو على الأقل لا عقلانية، ما يجعل أي محاولة لإخضاعها لمنطق العقل أو القانون الوضعي غير ممكنة بالشكل الحالي، وبالتالي يبدو حتى من العبثية مجادلة أصحابها عليها حتى.
هذه المسألة قد لا تبدو للكثير منا بتلك الخطورة والحساسية التي عليها، لكن عندما نتعمق في الأدوار وهامش التحرك، وحينما يسلط الضوء على طرق توزيع الأدوار وتفريغ السلط بين المركز والهامش، حينها نكتشف أن المواطن/الرعية هو آخر ما يشكل الهم داخل هذه الخطاطة السياسية.
فآليات الهبة والنعمة والحظوة والرضا والسخط والغضبة وما إلى ذلك، كلها مفردات تحمل في طياتها شيطان ممارسة الحكم داخل مؤسسات الدولة، ليس فقط من المركز إلى الهوامش، لكن حتى من خلال العلاقات بين الرؤساء والأتباع داخل كل المؤسسات والتجمعات التي تنتج فيها القرارات.
فحتى الآن لا توجد قاعدة قارة ولا ميثاق واضح لأسس العلاقة بين المواطن والدولة، فالقانون والدستور يبقيان مجرد قاعدتين هامشيتين أدنى درجة وسموًا من علاقة السلطان والرعية التي كانت السائدة منذ التاريخ وهي التي لا تزال تحكم وتتحكم في تسيير أمور الدولة وتتحكم في مراكز القرار.
فالذي حدث أن هذا المنطق في إدارة البلاد أنتج لنا نخبًا غير تابعة ولا تخدم المجتمع في شيء ولا المواطن في الحقيقة، لكن همها الأول والأساسي هو الحصول على تلك "الحظوة" و"الرضى" المخزنيين، على أمل البقاء في مركز النعمة والحيلولة دون كل ما من شأنه إثارة الغضبة أو السخط من المركز.
ومن نتائج هذه العلاقة هو أن وقع شرخ كبير في علاقة المواطن بالنخب التي تتوسط علاقته بالسلطان، حيث لم تشكل تلك النخب سوى ائتلاف مصالح وشبكة أخطبوطية موزعة على ما هو مدر للمال والثروة أو امتلاك للسلطة في البلد.
الأمر الذي نتج عنه كذلك تصفيات حسابات وصراعات النفوذ و التناور على المراكز والمنافع، هذا الأمر جعل في كثير من الأحيان صراعات الأشخاص والمجموعات داخل نخبة المخزن قاسية ودائمة دون شفقة، وكانت المكائد والمؤامرات فيما بين أطراف المربع القريب من البلاط هي السمة الأصل للوضع، وهو ما جعل المسؤوليات التي حظي بها هؤلاء يتعامل معها كـ"غنيمة حرب" لا شأن ولا فضل للمواطن بها ولاتهمه في شيء.
المنظومة التي تحكم المغرب لم تكن في حقيقتها تمثل فكرًا بناءً أو إرادة إيجابية مُوحّدة لخدمة البلاد
الأكثر من ذلك كانت الصراعات تخرج عن نطاق المتحكم فيه وتفرز لنا أزمات كبيرة مهددة للبلد برمته كصراعات رجال الحسن الثاني مع رجال محمد السادس، وتفجيرات الدار البيضاء 2003، وصراع جناح الهمة وجناح الماجيدي، وأحداث أكديم إيزيك، وأخيرًا اليوم مع حراك الحسيمة وما رأته إحدى الجرائد الفرنسية وعي ماروك إنفو، سعي لتصفية حسابات سياسية بين الأمن والمخابرات من جهة، والدرك من جهة ثانية.
اقرأ/ي أيضًا: المغرب والأردن.. ملكيّة الاستبداد الذكي
وهو ما يجعلنا نخلص إلى فكرة مفادها أن المنظومة التي تحكم البلد لم تكن في حقيقتها تمثل فكرًا بناءً أو إرادة ايجابية موحدة لخدمتها، بل كان هدفها الأسمى ينحصر في البقاء لفائدة الجماعات والأشخاص الذين يكونون مربع السلطة وذلك النطاق الضيق، وبما يمنح أقصى درجات الاغتناء ومراكمة الثروة والسلطة منه دون أن يكون للمواطن العادي نصيب ولا حظ من أي منهما.
اقرأ/ي أيضًا: