"لا صوت يعلو اليوم فوق صوت الضحايا.. إنه يوم رد الاعتبار للوطنيين الذين قاوموا من أجل بلدهم.. يوم مشهود ولحظة تاريخية ستظل علامة فارقة في مسار بناء دولة القانون.."، هكذا استهلت سهام بن سدرين، رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة، الهيئة المكلفة بمسار العدالة الانتقالية في تونس، كلمتها في افتتاح أولى جلسات الاستماع العلنية لضحايا القمع والاستبداد خلال العقود السابقة، المنعقدة مساء يوم 17 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري بفضاء "نادي عليسة"، الذي كان على ملك زوجة الرئيس المخلوع بن علي.
ست شهادات قدمت خلال جلسة الاستماع الأولى للضحايا في تونس، ساعات كانت مثقلة بالآلام والذكريات والشجن في سعي لكشف الحقيقة والمصارحة
كان الحدث مهمًا للتونسيين ولغيرهم في مختلف دول العالم، فالتجربة على قدر من الفرادة تونسيًا وعربيًا أيضًا، حيث لا نزال نرى قوى الظلم تزداد قوة وتبث الرعب. ست شهادات قدمت خلال الجلسة الأولى، والتي تواصلت، على امتداد أكثر من 4 ساعات، إلى حوالي الساعة الواحدة من فجر اليوم الموالي. ساعات كانت مثقلة بالآلام والذكريات والشجن في سعي لكشف الحقيقة والمصارحة وكخطوة نحو بقية مسار العدالة الانتقالية، الذي يقوم على ركائز متتابعة، هي كشف الحقيقة وحفظ الذاكرة، مساءلة الفاسدين، وجبر الضرر للضحايا وتحقيق المصالحة الوطنية، وهو مسار متكامل، حدد قانون العدالة الانتقالية آلياته.
اقرأ/ي أيضًا: 17 نوفمبر... تونس تستمع إلى ضحاياها لأول مرة
تلقت هيئة الحقيقة والكرامة منذ انطلاق عملها أكثر من 65 ألف ملف لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان وفساد مالي خلال الفترة ما بين 1955 و2013، والتي تتعلق بمختلف العائلات الإيديولوجية والسياسية والاجتماعية. قبلت الهيئة حوالي 51 ألف ملف وأجرت إلى حد الآن حوالي 12 ألف جلسة استماع سرية. وتهدف جلسات الاستماع العلنية إلى "إعطاء الضحية صوتًا طالما كمم في السابق، توفير معلومات بشكل علني لتوثيق ما حصل من انتهاكات ومعالجة آفات نخرت المجتمع التونسي إلى وقت قريب"، حسب تصريح رئيسة الهيئة سهام بن سدرين.
ومن أبرز ما ميز جلسة الاستماع الأولى، غياب الرؤساء الثلاثة، أي رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب، رغم توجيه الدعوة لهم من قبل هيئة الحقيقة والكرامة. وهو غياب لم يفاجئ المتابعين لمسار العدالة الانتقالية في تونس، فلقد تعددت الخلافات في فترة سابقة بين مؤسسة رئاسة الجمهورية، في عهد الباجي قائد السبسي خاصة، وهيئة الحقيقة والكرامة، وبلغت ذروتها حين اقترح قائد السبسي مشروع قانون المصالحة الاقتصادية، وهو المشروع الذي اعتبرته الهيئة تدخلًا في مهامها ومحاولة لإجهاض مسار العدالة الانتقالية ولقي معارضة كبرى من المجتمع المدني التونسي وانتهى الأمر بسحبه والتخلي عنه مؤخرًا.
في جلسة الاستماع الأولى للضحايا، كان من الواضح تواصل القطيعة بين المؤسسة المسؤولة عن مسار العدالة الانتقالية في البلاد ومؤسسة الرئاسة خاصة، فقد ألمحت بن سدرين، رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة، خلال كلمتها أن "لا هيبة للدولة إلا باحترام حقوق مواطنيها"، و"هيبة الدولة" مصطلح أسس قائد السبسي حوله، حملته الانتخابية خلال الرئاسيات السابقة، وهو الذي وعد بإعادة فرض هذه الهيبة، في إشارة إلى عودة "قوة السلطة".
من أبرز ما ميز جلسة الاستماع الأولى للضحايا في تونس، غياب الرؤساء الثلاثة رغم توجيه الدعوة لهم
اقرأ/ي أيضًا: هل أتاكم حديث عدالة انتقالية محاصرة؟
أمهات شهداء الثورة.. محاكمات عسكرية ظالمة وحق لا يسقط بالتقادم
وريدة كدوسي، كانت أول من قدم شهادتها، وهي أم الشهيد رؤوف كدوسي، شاب من منطقة الرقاب في محافظة سيدي بوزيد، مهد الثورة التونسية، وقد قتل رؤوف في 28 من عمره برصاصة أصابت الصدر بالجهة اليسرى يوم 9 كانون الثاني/ يناير 2011، في عمق فترة الاحتجاجات الشعبية التي تلت موت البوعزيزي، وهو متزوج وأب لابن صغير. عرضت قضية موت رؤوف رفقة باقي شهداء سيدي بوزيد على المحكمة العسكرية بصفاقس. وكان الحكم كما تصفه والدته وريدة بـ"الظالم".
لا تصفه وريدة ابنها، خلال حديثها، إلا بـ"البطل الشهيد"، تقول إنها "مستعدة للتضحية بكل أبنائها من أجل أن تتحقق الحرية والكرامة التي انتفض من أجلها جزء من التونسيين في موفى سنة 2010". وتضيف: "لا تراجع عن حق ابني ولن يهدأ بالي ما لم تتحقق الأهداف التي خرج من أجلها الشباب في سيدي بوزيد وغيرها من المحافظات التونسية في ذاك الشتاء القاسي".
بعد مرور حوالي ست سنوات، تطالب وريدة بإعادة عرض قضية ابنها على قضاء مدني وتؤكد ثقتها في مسار العدالة الانتقالية، وتصفه أنه "أملهم الوحيد حالياً". وريدة ختمت شهادتها بنصيحة، كما تصفها، وجهتها للسياسيين الذين لا يتوجهون إلى دواخل تونس إلا زمن الانتخابات على حد قولها، مضيفة: "اهتموا بالجهات التي أشعلت الثورة، فالناس فيها غاضبة وساخطة، لا شيء تغير، ولا بوادر للإصلاح، والانتفاض في أي وقت لا يزال قائمًا".
أما الشهادة الثانية، فكانت لربح، أم الشهيد صلاح الدشراوي، وهو شاب من مواليد سنة 1991، توفي في 8 كانون الثاني/يناير 2011 في حي النور بالقصرين، إثر احتجاجات ثورة الحرية والكرامة. في شهادتها، تقول والدة أول شهداء القصرين: "خرج أبناؤنا لتحرير تونس من ظلم سنوات طويلة، فقتلوا ثم عوقبوا بحكم ظالم"، وتوضح: "أعرف من قتل ابني وقد قتل شابًا آخر أيضًا في ذات اليوم، الشهادات موجودة لكن حكم المحكمة العسكرية كان مخففًا معتبرين القتل على وجه الخطأ والقضية الآن في طور التعقيب".
ختمت ربح قائلة: "لم نعد نضحك كالعادة، كل شيء صار مختلفًا، كل شيء صار مرًا، ظلموا الشباب وقاموا بمحو جهاتنا لكننا لا نخاف شيئًا، اعتدنا حتى على الرصاص الحي".
هو أنيس الفرحاني من مواليد 1977، أصيب بطلق ناري بتاريخ 13 كانون الثاني/ يناير 2011 في احتجاجات في تونس العاصمة وهي الاحتجاجات التي انتهت بمغادرة بن علي البلاد في 14 كانون الثاني/ يناير 2011. وقد كانت والدته حاضرة في جلسة الاستماع العلنية الأولى لتقديم شهادتها.
تقول فاطمة، أم الشهيد أنيس الفرحاني، "كان كل شيء موثقًا في ذلك اليوم، صور أحدهم المشهد من أعلى عمارة، كان الاحتجاج سلميًا لكن رصاصة أصابت ساق ابني اليسرى، لم يتم إسعافه مباشرة، نقل بشكل متأخر للمستشفى أين فارق الحياة بعد يومين متأثرًا بإصابته". ما زاد في لوعة فاطمة كان قرار المحكمة العسكرية بتونس، والذي قضى بثلاث سنوات سجن فقط في حق المتهم.
لم تخف فاطمة حسرتها على بلد صارت تُسمى ثورته بـ" ثورة البرويطة، في إشارة إلى عربة البوعزيزي وثورة الجياع"، كما لا تخفي ألمها من ما تسميه تنكر كل الطبقة السياسية والفاعلين في المشهد التونسي لشهداء الثورة ولابنها الذي توفي ممسكًا بعلم تونس، كما تقول.
كمال المطماطي.. شهيد الاختفاء القسري
كمال المطماطي، ضحية قمع مختلف. المهندس بشركة الكهرباء والغاز، وهي شركة حكومية، في منطقة قابس بالجنوب التونسي والناشط النقابي والسياسي ضمن حركة الاتجاه الإسلامي، حركة النهضة حاليًا، كان ضحية اختفاء قسري سنة 1991، وكانت عائلته ضحية هرسلة وظلم تواصل لعقود.
بعد اعتلاء زين العابدين بن علي سدة الحكم في 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1987، انتهج سياسة انفتاح مع القوى السياسية المختلفة في البلاد لكن سرعان ما تبين زيفها مع انتخابات نيسان/ أبريل 1989، كانت تلك الانتخابات، التي زورت نتائجها بشهادة عديد المتابعين والمنظمات غير الحكومية الأجنبية، منعرجًا لمرحلة جديدة من الاستبداد واتخذ على إثرها قرار يخنق كل نفس معارض في البلاد وانطلقت أيضًا حملة شرسة ضد الحركة الإسلامية، التي بدأت تظهر بوادر انتشارها في أوساط التونسيين حينها.
في إطار هذه الهجمة، تم إيقاف عديد القيادات من حركة الاتجاه الإسلامي ومنهم كمال المطماطي، الذي اقتيد بالقوة إلى منطقة الشرطة بقابس في تشرين الأول/ أكتوبر سنة 1991 أين عنف وعذب إلى حد الموت وأخفوا خبر قتله على عائلته إلى حدود سنة 2009. وخلال تلك الفترة، أي حوالي عقدين، عانت العائلة هرسلة نفسية وجسدية ومحاصرة ومضايقة ومراقبة أدت إلى انقطاع أبنائها عن الدراسة وإصابة جل أفراد العائلة بأمراض نفسية
سردت أم كمال المطماطي وزوجته على مسامع ملايين المتابعين الحادثة بكل تفاصيلها ووجعها. رحلة البحث الطويلة لسنوات بين مراكز الشرطة والسجون والمستشفيات، رحلة تخطت حدود المكان وقلة ذات اليد وصعوبات الحياة والمراقبة اللصيقة، وإلى حد هذه الساعة لا تعلم عائلة كمال المطماطي شيئًا عن جثة ابنهم المقتول تحت التعذيب والمختفي منذ سنة 1991.
أجمعت الشهادات في جلسة الاستماع للضحايا على أن لا يجب السماح بالإفلات من العقاب بعد اليوم في تونس وأن للضحايا حقًا لا تراجع عنه
سامي براهم.. تعذيب ممنهج ولا إنساني
شهادة سامي براهم، كانت مختلفة وكان وقع تأثيرها على المتابعين أيضًا عميق جدًا، ويعود ذلك لاعتبارات عدة، منها أن المتحدث مثقف تونسي ووجه معروف كباحث وأكاديمي لكنه حضر إلى جلسة الاستماع الأولى لشهادات عهد الاستبداد، في حلة مغايرة. وكانت شهادته مؤثرة جدًا لحجم البشاعة التي تضمنتها ولهول الصدمة التي انتابت الكثير من التونسيين.
تعود أحداث شهادة براهم إلى أول سنوات حكم بن علي، وهو الذي وعد التونسيين إبان انقلابه على بورقيبة، برغبته القطع مع الماضي وتكريس التعددية السياسية. فشجع ذلك عديد الأصوات للنشاط النقابي والسياسي وعلى مستوى الجامعات التونسية، ومن هؤلاء سامي براهم، الطالب حينها في دار المعلمين العليا بمحافظة سوسة الساحلية.
تم تجنيد براهم قسريًا في شباط/فبراير 1990 بعد التفطن لمشاركته في احتجاجات طلابية حينها وتوضح ميولاته الإسلامية حينها، وبعد فترة التجنيد القسري ألقي عليه القبض مجددًا وبقي لشهرين تحت الإيقاف، تعرض خلالهما للتعذيب والاعتداءات النفسية والجسدية وللحرق بالسجائر في أماكن حساسة من جسده وغير ذلك من حوادث التعذيب الممنهج.
لم يتم إطلاع براهم على محضر القضية وأجبر على إمضاء محاضر البحث والاستنطاق وتمت محاكمته. قضى إثر ذلك 8 سنوات سجنًا إلى موفى 1999، تم خلالها نقله بين عديد السجون التونسية وتعرض خلال فترات السجن إلى الضرب والإهانات المتكررة والتحرش الجنسي وعديد الممارسات الأخرى اللاإنسانية.
ذكر براهم بعض مشاهد التعذيب، ومنها إحدى حصص التعذيب، التي بقيت عالقة في ذهنه ذات 20 آذار/مارس 1994 بسجن الهوارب، نظرًا لرمزية التاريخ المتزامن مع احتفال تونس كل سنة بذكرى استقلالها عن المستعمر الفرنسي، حيث تم إخراجه صحبة مجموعة من المساجين لساحة السجن وبعد سكب الماء عليهم تمت تعريتهم ودفعهم على بعضهم بواسطة العصي والركل وتحت التهديد بإطلاق الكلاب مما أدى إلى نوبة عصبية هستيرية أصابت سامي براهم، وكانت هذه إحدى مشاهد التعذيب المخيفة التي ذكرت كل المتابعين بمشاهد سجن "أبو غريب" في العراق.
خضع المثقف والجامعي سامي براهم، إثر خروجه من السجن، إلى المراقبة الإدارية لإحدى عشرة سنة إلى أواخر سنة 2010 وإلى محاولات ابتزاز طويلة، سعياً لتطويعه وليكون جاسوسًا لدى الأمن التونسي. لكن سامي تحدى كل ذلك، واصل تعليمه وتزوج وأنجب بنتًا، يقول إن نجاحه وتفوقه في المجال البحثي ومحاولة بناء حياته الأسرية من جديد كانت ردة فعله تجاه كل ما عايشه من تعذيب وتشفي. حاولوا إخصاءه وتوجيهه نحو المثلية الجنسية إجبارًا، حاولوا التأثير على أعصابه ليدخل عالم الجنون، وهذه طرق معتمدة في السجون التونسية في حق المساجين السياسيين أساسًا، لكنهم لم يوفقوا رغم نجاحهم في تحطيم حياة آخرين.
براهم قال إن "شهادته كانت من أجل عائلته، ليفتخروا بما آمن به"، وأضاف أنه "اختار أن لا يقاضي جلاديه لكنه يدعوهم للاعتراف والاعتذار من التونسيين". ورغم تأثره الواضح، حاول أن يرسم ابتسامة المنتصر في نهاية شهادته، وهو "المنتصر"، كما قال، "على العجز والمرض والهواجس"، وقد استطاع مواصلة دراسته بعد الخروج من السجن والنجاح بتميز في الأستاذية والماجستير والعمل على الدكتوراه وهو المتغلب على كل آثار التعذيب النفسية مواصلًا حياته، وهو الأب لبنت "حلوة"، كما أطلق عليها.
جلبار نقاش.. قصة تعذيب الزمن البورقيبي
يتعلق الأمر بشهادة أحد كتاب تونس المعروفين، الذي سجن وعذب خلال زمن حكم بورقيبة أساسًا. اعتقل جلبار نقاش إثر مظاهرات طلابية سنة 1967، تم إخضاع الطلبة للتعذيب واكتشاف ما يُعرف بـ"مجموعة الدراسات والعمل الاشتراكي، أو "حركة آفاق"، وهي حركة يسارية ظهرت في ستينات القرن العشرين في تونس، والتي كان جيلبار أحد أعضائها المؤسسين، فتم إيقافه وسلط عليه تعذيب شديد عبر العصي والصواعق الكهربائية والأسلاك وغير ذلك لكن لم يمنعه ذلك من مواصلة نشاطه المعارض لسياسات بورقيبة حينها، ما أدى إلى تكرار إيقافه وتعذيبه في وزارة الداخلية مرات أخرى.
حوكم جلبار نقاش بـ14 سنة سجنًا بتهمة التآمر على أمن الدولة والاحتفاظ بجمعية غير مرخص لها، قضى منها فترة ثم تعرض بعد الفترة السجنية إلى مراقبة إدارية وإلى الإقامة الجبرية وانتهاك حقه في التنقل وحرمانه من حقه في السفر وتشويه سمعته.
والمتابع لمختلف الشهادات التي قدمت في جلسة الاستماع العلنية الأولى لضحايا انتهاكات العهد السابق، يلاحظ أن لا جهة أو عائلة إيديولوجية أو تيارًا فكريًا سلم من الظلم والتعذيب في تونس، وكأن الفاعلين في الدولة لم يكونوا عادلين إلا في توزيع الظلم. هذه الشهادات أجمعت أن لا يجب السماح بالإفلات من العقاب بعد اليوم في تونس، وعلى أن لضحايا القمع حقًا في العدل والإنصاف لا تراجع عنه. ويمر ذلك عبر مسار العدالة الانتقالية الذي اختارته تونس وتأمل في إتمامه وهو رسالتها إلى رواد الحرية والعدالة في العالم.
اقرأ/ي أيضًا: