لا يطمح زوّار معارض الكتب اليوم إلى اقتناء الكتب والتعرّف المباشر على مؤلّفيها، وتبادل الحوار معهم فحسب، وإنّما يبتغون، أكاد أقول أساسًا، التقاط أكبر عدد من الصّور إلى جانبهم. وهم يفترضون أنّ ذلك تشريف لهم مثلما هو تشريف لمؤلفي تلك الكتب. بل إنّ منهم من صار يطلب من المؤلف، أثناء أخذ الصورة، أن يُمسك بطرف من الكِتَاب المقتَنى، بينما يمسك هو بالطرف الآخر، كما لو كان الكِتاب قنطرة وصل بينه وبين المؤلِّف. كل ذلك يظهر كما لو أنّه يتمّ في جوّ من الاحتفاء والاحتفال، بل من البهجة والمحبّة.
لا يرى القارئ في هذه العملية إلا وجهها الإيجابي من حيث هي اقتراب من الكاتب، وتخليد لذكرى، وتمتين لروابط. ربما لا نستطيع أن نجزم أنّ هذا الإحساس هو ذاته إحساس المؤلِّف. فكثير من الكتّاب يتخوّفون من أن تجرّهم مثل هذه المواقف إلى شيء من "النجومية"، فلا تعود قيمتهم تتحدّد بما يكتبون وما ينشرون، وإنّما بما يُنشر لهم من صور و"يُرى" منها. إنهم يهابون أن يتحولوا إلى فرجة، وألا تتحدّد قيمتهم إلا بما هم "محط رؤية"، وأن يجعلوا أنفسهم "جزءًا من مشهد" (spectacle).
كثير من الكتّاب يتخوّفون من أن تجرّهم مثل هذه المواقف إلى شيء من "النجومية"، فلا تعود قيمتهم تتحدّد بما يكتبون وما ينشرون، وإنّما بما يُنشر لهم من صور و"يُرى" منها. إنهم يهابون أن يتحولوا إلى فرجة، وألا تتحدّد قيمتهم إلا بما هم "محط رؤية"، وأن يجعلوا أنفسهم "جزءًا من مشهد" (spectacle).
كان رولان بارت يعتبر استلاب الصورة مكوّنًا من مكوناتها، وذلك حتّى قبل أن تدخل في مسلسل الإنتاج الإعلامي. وهو يعترف أنّه في كل مرّة كانت تُؤخذ له صورة، كان يراوده إحساس بزيفٍ و"انعدام أصالة". فالصورة، كما يقول، تمثّل "تلك اللحظة التي لا أعود فيها لا ذاتًا ولا موضوعًا، وإنّما ذاتًا تشعر أنها غدت موضوعًا، إنّها إذن لحظة أعيش فيها تجربة موت صُغرى: فأنا أغدو فيها شبحًا بالفعل".
تقرّبنا كلمة "شبح" (Spectre) هذه من خطورة الصورة، ومن مفارقاتها. فرغم أن الصّورة تُربَط عادة بتخليد اللحظات الجميلة، تخليد لحظات المحبّة والحياة والإيروس، فهي ليست بعيدة عن الفناء والتناتوس. يستعمل بارت اللفظ اللاتيني "spectrum" للدلالة على هدف الصورة و"موضوعها". وهو يستعير هذه الكلمة من الفيزيائي إسحاق نيوتن الذي كان أطلقها دلالة على الطّيف الضوئي (Spectre optique)، أي على سلسلة الألوان التي ينحلّ إليها الضوء الأبيض (تجربة الموشور الزّجاجي الذي يحلّل أشعّة الشّمس مثلًا إلى ألوانها المركّبة، وتجربة أسطوانة نيوتن التي تركب بحركتها السريعة ألوان الطيف). الكلمة آتية من الفعل specere الذي يعني "الرؤية"، وهو يعادل اللفظ الإغريقي الذي يدل على الشّبح والطّيف Spectre. ترتبط الصّورة إذن بالرّؤية والفرجة والاشتباه، كما ترتبط بالموت والأشباح و"عودة الأموات" وحضور الغياب. لعلّ المفارقة الأساسية للصورة إذن هي أنّها تنتج الموت عندما تحاول أن تحفظ الحياة و"تخلّدها". عندما تسعى الصّورة إلى أن تجعل الغياب حاضرًا، فإنّها تغدو بذلك شهادة فعلية على "غياب هذا الحضور".
غير أنّ الغياب الفعلي الذي تولّده عمليات التصوير هذه في معارضنا، هو كونها أصبحت تحلّ، شيئًا فشيئًا، محلّ كلِّ حوار حقيقي بين المؤلّفين ومن يقتنون كتبهم، وكلِّ تبادل للآراء لا يكتفي بوهم التواصل عن طريق يدين تمسكان الكتاب ذاته من خارج، وإنّما يسعى نحو رباط حقيقي يُدخل القارئ والمؤلف إلى أغوار الكتاب، ويجرّهما إلى حوار يقرّب كلًا منهما من الآخر بإبعاده عنه.