كلما شاهدت صور المظاهرات والاعتصامات في بيروت، تبادرت إلى ذهني صور ونماذج من معاناة الأردنيين في القرى والمخيمات مع النفايات وخدمات البنية التحتية. وعادت بي الذاكرة إلى قبل عام من الآن تقريبًا، حين انتقلت للسكن في بيتي الجديد، وكنت قد اخترت البقاء في قريتي نفسها، مفضلاً الهدوء على ضجيج المدن وصخبها.
ولم يكن ينغص علي هناء الحال سوى أكثر من ثلاثين حفرة أصابت الشارع الذي يمر من أمام بيتي، إضافة إلى حاوية قمامة قامت البلدية بوضعها قريبًا من البيت، وكان عمال البلدية يعمدون إلى حرق النفايات حول الحاوية بدلًا من تنظيفها، وكانت الرياح تقوم بدفع الدخان باتجاه بيتي. راجعت البلدية، وهي تشرف على سبع قرى، فطمأنني رئيسها بأنّ الشارع سيشمله التعبيد الذي سيبدأ خلال أسبوع وأخبرني مدير المنطقة أنه أوعز للعمال بنقل الحاوية بعيدًا عن بيتي.
تحولت النبع الوحيدة في القرية إلى مجمع للقاذورات نتيجة إهمال البلدية
أخذت إجازة لمدة أسبوع أملًا في أن أكون موجودًا عندما تنطلق أعمال التعبيد وخشية أن يهمل المقاول بعض جوانب العمل. وكنت كلما سمعت صوت آلية تمر في الشارع، صباحًا، أقفز من سريري، وأخرج من البيت مسرعًا، كي لا تفوتني أي جزئية في العمل. لكني كنت أكتشف أنها مجرد آلية عابرة إلى سبيلها ولا علاقة لها بالبلدية. والآن، وبعد مرور نحو عام، لاتزال البلدية تمطرنا وعودًا وتتحدث بحماسة عن الجاهزية والتنفيذ القريب.
وأنا هنا لا أتحدث عن تجربة شخصية منفردة فقد انضممت قبل شهرين إلى مجموعة من شباب القرية لتباحث سبل تحسين الخدمات البلدية أو تخفيف سوئها على الأقل. وبتبادل تجاربنا المريرة مع البلدية تبين أنها تقوم بسياسة إهمال ممنهج. تم تحويل جزء كبير من المنطقة السياحية إلى محرقة نفايات تضم 14 حاوية، ونتيجة للإهمال تحولت النبع الوحيدة في القرية إلى مجمع للقاذورات.
وصل مستوى النظافة في القرية أدنى مستوياته خاصة مع تخصيص البلدية 6 عمال فقط لتنظيف قرية يتجاوز عدد سكانها 15 ألف نسمة، وخصصت لهم ثلاث مكانس بواقع مكنسة لكل عاملين. وعن الشوارع التي تم تعبيدها، تدهور وضعها مع بداية الشتاء لأنها لا تتوفر على أدنى شروط الجودة، ولأنها تخالف كل المواصفات والمعايير المتفق عليها.
كما اكتشفنا أن ما يقارب 70 % من مصاريف التعبيد تم تحويلها إلى قرية شخص متنفذ في البلدية، فيما تم توزيع النسبة المتبقية على القرى الأخرى. وانتشر في القرية أن هذا الشخص المتنفذ يستعد لخوض الانتخابات البرلمانية بالاعتماد على "منجزاته" التي اقتنصها من حقوق الآخرين.
وكرد فعل، انطلق "حراك البلدية" ولجأنا إلى كل الوسائل المشروعة للدفاع عن حقوقنا، تقدمنا بشكوى لمكافحة الفساد وأخرى لرئاسة الوزراء وثالثة لوزارة البلديات كما طرقنا باب المحافظ عدة مرات. وكانت الاستجابة الجادة، في ظاهرها، بعد أن حدد شباب القرية موعدًا للاعتصام والتظاهر.
اكتشفنا أن ما يقارب 70 % من مصاريف التعبيد تم تحويلها إلى قرية شخص متنفذ في البلد
تدخلت كل الجهات الأمنية والإدارية لتهدئة فورة غضبهم وشكّل المحافظ لجنة تقصي ومتابعة وكانت نتيجة تقريرها لصالح الحراك. كما أن مسؤولًا أمنيًا تعهد بتنفيذ كل المطالب وبتحسين الخدمات. غير أن شيئًا من ذلك لم يتحقق بعد قيامهم بتأجيل الاعتصام، بل اتضح أنها إجراءات "تخديرية".
تمر هذه الحادثة بـ"رائحتها" وتفاصيلها في البال، وأنا أشاهد اللبنانيين في شوارع بيروت حاملين اليافطات، ويُسمعون العالم صرختهم "طلعت ريحتكم". فإذا كانت المدن والمراكز الأردنية تنعم بمستوى معقول من خدمات البنية التحتية، فهل يعني هذا أن تغرق القرى ومناطق الهامش بقذارات القمامة، وتتحمل نتائج الفساد والانفلات الإداري في البلديات وغياب الرقابة عليها؟
لماذا نصمت على فساد شخص لأنّ أحد أقربائه مقرب من السلطات العليا في البلاد؟ لماذا لا نقوم، أقصد متساكني القرى، بتعميم التجربة "البيروتية" على جميع القرى الأردنية المهمشة؟ هذا السؤال طرحناه على أنفسنا في "حراك البلدية" في محاولة للتنسيق مع شباب القرى المجاورة لنردد عاليًا .."طلعت ريحتكم".