التحقت بالعمل في المكتبة الوطنية الجزائرية، يوم 01 كانون الثاني/يناير 2003. فصرت معدًّا ومقدّمًا للمقهيين الأدبي والفلسفي، بينما تفرّغ الشّاعران طيّب لسلوس ونجيب أنزار، قبل أن يلتحق بهما الشاعر علي مغازي، لمجلّتي "الثقافة" و"الكتاب".
حديث الذّاكرة
لأنني كنت وحيدَه، وقد استقلّ عن البيت الكبير، كلّفني أبي بأن أكون رسولَه إلى الحانوت، بعد أن تفاهم مع صاحبه، على أن يُعطيني ما أريد، ويسجّل ذلك في كرّاسةٍ خاصّة.
كان الحانوت يبعد عن بيتنا ما لا يقلّ عن خمسة كيلومترات. وكان دافعي الأكبر في أن أذهب إليه من غير كسلٍ، أن أشتري بطارياتٍ جديدةً لمذياعي. لم تكن هناك كهرباء في أولاد جحيش، وكانت البطاريات تنفد بسرعةٍ، فلم يكن المذياع يفارق أذني، ما عدا وقتَ الدّراسة أو النّوم. وكثيراً ما كنتُ أنام، ويبقى هو على قيد الاشتغال.
عرفتُ كلّ مخرجي الإذاعة الوطنية ومنشطيها وتقنييها، وأنا لم أغادر القرية بعد. وكنتُ أتخيّلني منشطًا، فأستدعي من أشاء من الأسماء المشهورة، وأحاورها في الخيال، على ضوء ما عرفتُ عنها، من خلال مذياعي الحبيب.
2
مات الرّوائي محمّد ديب، 02 أيار/مايو 2003، فقال لي مدير المكتبة الوطنية الرّوائي أمين الزّاوي إنه على المقهى الأدبي، الذي كان يحمل اسم الرّاحل أصلًا، أن ينظّم تأبينية تليق بالمقام.
3
بعد نهاية الأمسية التي قمت بتنشيطها، قصدني شخص ودود: أنا محسن سليماني مدير لقناة الإذاعية الأولى، وأرى أنه من صالح الإذاعة أن تنتج لها برنامجًا أدبيًا.
حديث الذّاكرة
استضفت الرّوائي رشيد بوجدرة، في الخيال، وأنا طفل يقطف العسلوجَ في حقول أولاد جحيش، فكنتُ السّائلَ والمجيبَ في الوقتِ عينِه. وحدث أن التحقت بالإذاعة يوم 17 أيلول/سبتمبر 2003. فكان ضيفي الأوّل على المباشر رشيد بوجدرة، وقد صرنا صديقين من خلال جلسات المقهى الأدبي في المكتبة الوطنية.
كان يجيب بنفسه هذه المرّة، وكنتُ سارحًا بما أثار الشّك فيه. سألني بعد أن خرجنا: واش بيك كنت سارح؟ صارحته: كنت أقارن بين إجاباتك الليلة في الإذاعة، وإجاباتك على لساني، حين استضفتك في المرعى.
4
كان البرنامج يبث ليلًا. وكان من شروط الفندق الذي أقيم فيه ألا يفتح بابه لمن يتأخر عن السّاعة العاشرة. فكنت أنام، بعد نهاية المباشر، في قاعة التحرير بالطابق السّابع للإذاعة، على أن ألتحق بغرفتي في الفندق، بعد شروق الشمس والزّملاء.
5
جيئ بحرّاس جدد لا أعرفهم ولا يعرفونني، فأبوا أن يعطوني مفتاح القاعة، وطلبوا مني، ما دمت أنهيت شغلي، مغادرة مبنى الإذاعة.
سائق العمل: وين نحطّك يا شيخ؟
كان ممكنًا في تلك اللحظة أن أعطيه ألف احتمال. لكنّني رأيتُ أن أكون في بقعةٍ أعرف ليلها عميقًا، فطلبت منه أن يوصلني إلى ساحة الشّهداء.
6
غمزتني كرتونة كانت تحت سلّم مدخل غرفة التجارة المقابلة لثكنة البحرية، فاستجبت لها. غمزتني إغفاءة أملاها تعب النّهار والميكروفون، فاستجبت لها. غمزني منام رأيت فيه شابّا قادما إلي، فلم أستجب له. لقد ضربته برجليّ معا إلى خصيته في المنام، فأطلق صرخة ردّدها البحر في الواقع.
صرخة ثانية
تركت الفتى متكوّرا على وجعه، وانطلقت راكضا في ضباب العاصمة. ضباب.. ضباب.. ضباب، ترقّشه القطط والمتشرّدون والكلاب. بلغت السّاحة التي اغتيل فيها المسرحي عزّ الدّين مجّوبي، فعفست قطًّا أطلق صرخة ردّدها الشارع.
صرخة ثالثة
بلغت تمثال الأمير عبد القادر، في شارع العربي بن مهيدي، فأقسمت ألا أتجاوزه. أليس هو مؤسس الدّولة الجزائرية الحديثة؟ إذن فليلحقني فتى الليل وليقتلني عند قدميه.
أسلمت ظهري للتمثال من الجهة المطلّة على حانة القمر الأحمر. فإذا بي أسمع وَحْوَحاتٍ من الجهة المطلّة على مقهى ميلك بار، الذي وضعت فيه جميلة بوحيرد إحدى قنابلها.
كان مهبول يُضاجع مهبولة، من النّوع الذي نسي الماء جسدَه. أكمل غزوته، ثم انتحى يتقيّأ مثل الذي بلع قطة نافقة، فيما أخرجت هي أحمر الشفاه، من حقيبة تدّعي أنّها حقيبة، وأطلقت زغرودةً سمعتُها في القمر.
اقرأ/ي أيضًا: