يشغلني هذه الأيام التأمل في أوضاع وأحوال المثقف المصري، ومحاولة تفهّم آليات حركته ومحدداتها والعناصر التي تؤثّر سلبًا وإيجابًا في مواقفه. ففي فترة سابقة كانت المناهج الفكرية والسياسية والاجتماعية التي أعلت من دور المثقف تجاه وطنه وشعبه هي السائدة، وانتشرت المذاهب التي تروّج لمبدأ "الالتزام" في الأدب والثقافة وفي الفكر والتوجهات العامة، بحيث طغت على ما عداها من مناهج كان لها بعض نفوذ، مثل تلك التي تدعو إلى حصر التزام المثقف أو المبدع في حدود فنه أو أدبه، تحت مسميات عدة "الفن للفن" و"الأدب للأدب"..إلخ.
لا تقتصر أعمال الكتّاب العظماء على جانب واحد، ولا تقع أسيرة رؤى صبيانية
وقد بولغ أحيانًا من أنصار المذهبين حتى وضعاهما في تناقض حدّي أو صفري إن صح التعبير، وبحيث أصبح من المتعذّر إيجاد أرضية مشتركة تسمح بألا يدير المثقف ظهره للحياة تحت دعاوى الالتزام بالقيم الفنية والجمالية الخالصة، من جهة، أو يحوّل الفنان الملتزم الفن إلى "منشور" سياسي قد يكون رفيع المقام من الناحية السياسية، لكنه هزيل البنيان سطحي وضعيف من الناحية الفنية، من جهة أخرى.
اقرأ/ي أيضًا: القصّة القصيرة.. سلطة الهامش
ودعمت التوجهات الرسمية لدولة ما بعد الاستقلال في مصر والمنطقة العربية التوجه الأول، بعدما أصبحت سياسات التوجه الاجتماعي البيروقراطية هي المعتمدة. ومنح هذا الدعم لمناهج الالتزام الثقافي فرصة أكبر للتواجد والحركة، في مقابل حصار نسبي للمناهج الأخرى. ورغم ذلك فلا يمكن إنكار أن فترة الستينيات على سبيل المثال، رغم القمع الدولتي، شهدت ازدهار نوعيات من الأدب والفن الرفيع، تمثلت في كتابات وأعمال متميزة لعناصر من المثقفين اليساريين والشيوعيين بشكل غالب، نجت من هذه الثنائية المدمرة.
ولعل استذكار أعمال نجيب محفوظ ويوسف إدريس وألفريد فرج وميخائيل رومان ومحمود دياب وغيرهم ما يؤكد هذا القول، غير أن هزيمة التجربة السياسية لدول ما بعد الاستقلال وانكسار موجاتها وارتدادها في العديد من الدول، وخاصة مصر بحكم ثقلها التاريخي، دفع الرياح في شراع الاتجاهات الأخرى التي وجدت متنفسًا للانتقام من "عصور الظلام" السابقة فانتشرت كالجراد في كل مناحي الثقافة والفكر والميديا الإعلامية والتجمعات الثقافية والجامعات لكي تسوّي حساباتها المؤجلة مع الماضي، ولكي تشيع مزيجًا من فلسفات عدمية وذاتية وشخصانية، تنكر تمامًا أي مسؤولية للمثقف تجاه وطنه أو قضايا شعبه، أو نحو أي تجمع إنساني خارج الذات، وتعلي في المقابل بصورة متزايدة من شأن الحواس والمشاعر الذاتية المفرطة والهموم الفردية الصغيرة، و"كتابة الجسد" على حساب كل ما تموج به الحياة من صراع وصخب وجدل وتفاعلات.
وجاء حين من الدهر انشغل المثقف المصري، والمبدعون بالذات، في إنتاج نوع من الأدب المهموم باجترار أوجاع لشخصيات بائسة، لا همّ لها سوى الجري وراء الغرائز وتغذية توق شبه مَرَضي للتحقق الجنسي، والحجة في ذلك جاهزة، فهذه هي الحياة وهذا هو "الصدق الفني"، متناسين أن الفن الذي يبقى لم يكن أبدًا سوى تعبير حقيقي وبالغ الصدق عن الحياة في اشتباكاتها وتناقضاتها ومجالدة الإنسان لظروفه وشروط وجوده، وكفاحه الدؤوب من أجل التغلب على موقوتيته وفنائه، وهو في هذا السياق لا ينفصل بحال عن الوجود الذي يضطرم بالحيوية والفوران من حوله، ولذلك عاش واستمر وسيستمر إلى أن تفنى الأرض ومن عليها. هكذا هي أعمال تولستوي ودوستويفسكي وتشيخوف وهيمنجواي وبيسوا ومئات غيرهم من المبدعين الباقين في ذاكرة الإنسانية، لا تقتصر أعمالهم على جانب واحد ولا تقع أسيرة رؤى صبيانية تتمترس خلف مصطلحات جذّابة وبرّاقة لتخفي خواءها.
أين يقف المثقف المصري تجاه ما يمور به المجتمع الآن من أحداث وتطورات؟
هذه المقدمة الطويلة وإن طالت أراها ضرورية لكي أطرح سؤالًا يراودني طوال الفترة الماضية ويلحّ على بالي هذه الأيام بالذات إلحاحًا كبيرًا: أين يقف المثقف المصري تجاه ما يمور به المجتمع الآن من أحداث وتطورات؟ ولماذا بهت صوته وضعفت استجابته لأحداث المجتمع المتواترة في السنوات القليلة الأخيرة. وكيف تسنّى له أن يبرر أمام نفسه محدودية تفاعله مع أبناء شعبه، الملايين الذين يخوضون حرب الموت والحياة، دفاعًا عن الوجود ولقمة العيش وشربة الماء؟ فضلًا عن الأرض والعرض والحق في العدل والحرية؟
اقرأ/ي أيضًا: متى يحقّق الأمل شروطه؟
كما هو معروف، وبعد طويل صبر تفجّرت الأرض المصرية بينابيع الاحتجاج السياسي والاقتصادي والاجتماعي حتى غمرت مصر كلها، وبعد أن كانت التحركات الاحتجاجية التي دشنتها حركة "أدباء وفنانون من أجل التغيير" منذ أواخر عام 2004 موصومة بأنها تحركات "نخبوية"، تدفق عشرات الآلاف من المواطنين عمالًا وفلاحين ومستخدمين وموظفين وفقراء وعشوائيين، إضافة إلى المهنيين، مهندسين وأطباء ومحامين واجتماعيين.. إلخ، وقضاة وأساتذة جامعيين وغيرهم من فئات المجتمع إلى ساحة الاحتجاج على سوء الأحوال وتردي الأوضاع والمطالبة بالحقوق المهدرة.
وبعد أن كانت موجات الاحتجاج مقصورة على مطالب الإصلاح السياسي، امتدت لتشمل المطالبة بتغيير كل شيء، من السياسة إلى الاقتصاد، ومن الكادر الوظيفي إلى طريقة بيع وإدارة المصانع وآليات توزيع الأسمدة وشراء المحصول من الفلاحين، وبعد أن كانت هذه الاحتجاجات قصرًا على العاصمة وبعض عواصم المحافظات الكبرى في أغلب الأحيان، امتدت لتشمل كل مصر دون أدنى مبالغة، من النوبة إلى السلوم ومن سيناء إلى الإسكندرية، وما انتفاضة 25 يناير 2011 سوى النتيجة المنطقية لذلك الاحتقان والغضب المتراكمين داخل الصدور.
لقد دفع الجوع الذي عضّ بنابه الأزرق الملايين لإعلان الغضب في أواخر عهد مبارك، وسيدفعهم أكثر وأكثر في المستقبل الذي يبدو أنه لن يشبه أيًا مما مرّ علينا في التاريخ القريب. صرخ الصامتون "الأبديون" من قرصة الفقر وغيبة الأمل، وتحركوا في مواجهة آلة قهر عزّ نظيرها: مليون ونصف المليون جندي أمن مسلح بأحدث ما في ترسانات القمع في العالم، وميسّر لتطوير قدراتهم على القهر ميزانيات هائلة، تمتصّ جانبًا كبيرًا من الدخل القومي. وحدثت المعجزة، ونطق أبو الهول، وتحرك الجبل الساكن الذي كان البعض يظن أنه لن يتحرك أبدًا.
ألا يذكر هؤلاء السادة النجباء الدور العظيم الذي أداه سيد درويش وبديع خيري وبيرم التونسي؟
وحدهم المثقفون المصريون، غائب صوتهم، باهت تجاوبهم، مترددة خطواتهم، مرتجفة أقلامهم، مشغولون بكل شيء إلا الشيء الأساسي الآن: نصرة أبناء شعبهم في معركة وجودهم ودعم كفاح مواطنيهم في سبيل انتزاع الحق في الحياة ولبناء مجتمع العدل والحرية والكرامة. أين اتحاد الكتاب؟ أين تجمعات الفنانين؟ أين نقابات الرأي مما يحدث؟ أين صوت المبدعين من الشعراء والأدباء والملحنين والمغنيين؟ أين الممثلون والممثلات بالأجور المليونية التي يتقاضونها؟ ألم يشعروا، وأغلبهم من أصول متواضعة، بمعنى ما يعانيه نحو 80 مليونًا من مواطنيهم وأبناء شعبهم جوعًا ومرضًا وتشردًا وتسممًا وهوانًا؟
اقرأ/ي أيضًا: عشرة كتب يجب أن تقرأها في 2017
ألا يذكر هؤلاء السادة النجباء الدور العظيم الذي أداه سيد درويش وبديع خيري وبيرم التونسي وفؤاد حداد والشيخ إمام عيسى وأحمد فؤاد نجم وعدلي فخري وعاطف الطيب ويوسف شاهين وداود عبد السيد؟ متى سيتحرك هؤلاء السادة؟ أبعد خراب مالطا كما يقولون؟ ومتى سيقولون كلمتهم إن لم تكن الآن؟ وأين سيسمعوننا صوتهم إن لم يكن هنا؟ وما هو دورهم إن لم يكن الانتصار للحق والدفاع عن الحقيقة والذود عن حياض الحرية؟
الآن هو أوان التحرك، فليقولوا كلمتهم قبل أن يُحاسبوا على أنهم شهدوا الظلم ولم يعترضوا، وعاينوا الفساد ولم يقاوموه، وليتذكروا كلمات برتولد بريخت: "ينبغي ألا يقال: الأزمنة كلها سوداء، بل أن يُقال: لماذا سكت الشعراء والأدباء الذين عاشوا فيها؟".
اقرأ/ي أيضًا: