تتعالى أصوات الشباب مندِّدة وشاجبة؛ الآراء المحتدمة تقرّ بأن هناك اختلافًا ثريًا وجدلًا حقيقيًا، نقاشًا صحيًا يدور حول أهم قضايا الوطن. أتخيل كيف يمكن لهذه الآراء أن تترك أثرًا كبيرًا في مسار الأحداث حتى بدر إلى ذهني سؤالٌ؛ هل حقًا يوجد رأيٌ عام؟!
مع التقدم التكنولوجي، طرأ شكلٌ جديدٌ على الجماعة الإنسانية، لم يعد ينظر إليها باعتبارها تجمُّع متجانس من البشر
كان يرى أفلاطون في مدينته الفاضلة أن العامَّة لا حقَّ لهم في إبداء الرأي، فنظرته المحتقرة للرأي العام جعلته يراهم مجرد حشد ضئيل لا يمثل أي قيمة. في الوقت الذي كان يرى فيه تلميذه أرسطو أن المشاعر الجماعية هي دليلٌ على الفطرة السليمة والصواب حينما يدب الخلاف.
في بدايات القرن الثامن عشر ظهر ما سُمي بالمجال العام تمهيدًا لتأثير الرأي العام في الحياة، على المقاهي والندوات والصالونات الثقافية يجلس العامة يتجادلون ويتناقشون. بدأ النظر إلى العامة باعتبارهم عنصرًا فاعلًا في العملية السياسيَّة وشعر الأفراد بقدرتهم على تحدي الاستبداد. مع التقدم التكنولوجي طرأ شكلٌ جديدٌ على الجماعة الإنسانية، لم يعد ينظر إليها باعتبارها تجمُّع متجانس من البشر يدور بينهم النقاش والجدال وتتبادل بينهم المصالح بشكل مباشر، لقد ظهر المجتمع الجماهيري.
الحُشُود في مقابل الجماهير
تميَّزت الحشود بخصائص أساسية كما حددها لوبون؛ فهي تتميز بسيطرة العاطفة على العقل واختفاء شخصية الفرد ووعيه داخل الجماعة. فالجماعة تنسجم وتتناغم مما يجعل أفكار الأفراد وآراءهم تتماهى لتتخذ نسقًا أحاديًا. في حين أصاب التطور التكنولوجي أفراد المجتمع بصفات جديدة ليخرج الجمهور؛ الذي يتسم بالتفكك وبروز شخصية الفرد على الجماعة وضعف التواصل بين الأفراد مما يُصعّب فكرة التناغم والانسجام.
ما يميز المجتمع الجماهيري إذن، هو إدراك الفرد لوجوده، ولأن الأفراد بطبيعة الحال يسعون دومًا لإشباع احتياجاتهم ورغباتهم مما ساهم في التركيز على مدخل الفروق الفردية في التعامل مع الجماهير، فكيف يتحول الجمهور وأفراده الواعيين لذواتهم إلى مجرد حشود غاضبة أو متعاطفة وتفقد القدرة على النقد والتفكير الذاتي؟!
الإعلام يُشتّت من أجل الحشد
كانت وسيلة الأفراد في التأكيد على ذواتهم وحقهم في المشاركة هي التبادل الحر للمعلومات والتفكير النقدي المنبني عليه، ولكن هل كان يومًا مفهوم الإعلام هدفًا للتبادل الحر للمعلومات أم وسيلة للدعاية والتأثير على رأي العامة وفقًا لغاية محددة. الصور القديمة على الجدران والمعابد التي تعد أقدم صور الإعلام تؤكد فكرة الدعاية. هناك مصدرًا ما يسعى لإيصال فكرة ما عبر وسيلة ما. فالحديث عن إعلام محايد أو قادر على تقديم حقائق هو محض هراء لم يعد في الإمكان الالتفات إليه، حديثنا الآن عمن يخدعنا أقلّ!
يقول روسو في العقد الاجتماعي: يولد الإنسان حرًا ويعيش في قيود في كل مكان
يقول روسو في العقد الاجتماعي؛ يولد الإنسان حرًا ويعيش في قيود في كل مكان. يفرض الإعلام المخوَّل بخلق مساحة للتبادل الحر للمعلومات على الفرد قيودًا مستمرة من خلال وعيه باحتياجات الأفراد واختلافاتهم الفردية. فربما نجد أن وسائل الإعلام تعمد في منهجيتها على التلاعب بمشاعر الرأي العام.
الصِّراعات والمجادلات عبر وسائل الإعلام ثم ماذا بعد؟ لا شيء غير أن الجمهور قصير الذَّاكرة، الحقيقة التي يدركها الإعلام جيدًا، فالعدو الأول لمستبدي الرأي أن تظل مدركًا لقضيتك وقتًا أطول. ماذا إذن عن حملات دعم المعتقلين، قتلة المتظاهرين، قضايا الفساد؟ إنها مسألة وقت وحسب. الصراخ واحتدام الأصوات، التحدث بعصبية والتهديد والشجب ثم ماذا بعد؟ لا شيء غير أن الجمهور تحكُمُهُ العاطفة، أنت حينها تقدم له منفذًا لإخراج الغضب وهو ما يحتاجه الجمهور فعلًا، إنه يريد أن يغضب. وعليه فالعدو الأول للرأي الاستبدادي أن تحفظ غضبك في مقابل التفكير النقدي.
ماذا إذن عن عشرات التظاهرات ووقفات الاحتجاج، حملات الرَّفض والسخرية على مواقع التواصل الاجتماعي، كل شيء يدفعك إلى إفراغ شحنات الغضب أو السخرية وفقط. عشرات الفواصل الإعلانية تقتحم عليك تفكيرك وتقطع عليك تفكيرك، ثم ماذا بعد؟ لا شيء غير أن التشتيت هو عدو الجمهور الأول فالجمهور لا يجيد الحفاظ على تركيزه بين إغراء الطعام والسيارات والشقق السكنية الفاخرة التي تطل عليه كل دقيقة تذكره أنه يجب عليه الشعور بالاحتياج إلى أشياء أخرى. ربما كان تسمية "ثورة يناير" بثورة الغضب أمرًا شديد الذكاء، أليس كذلك؟! إذن هل يمكن خلق رأي عام واعي؟
ربما لا جديد في الإجابة على هذا السؤال، فالإجابة هي لا. فوسائل الإعلام تتعمد طوال الوقت التأثير على الجمهور لتحويل الفرد إلى متلقي وتحويل الجمهور إلى حشد خاضع لعواطفه من خلال العشوائية المنظَّمَة. وبرغم ذلك يظل دومًا ما يُطلق عليهم قادة الرأي القادرين على تشكيل آراء الدوائر المحيطة بهم والتأثير على شكل استجابتهم لوسائل الإعلام خطرًا مهددًا لدور وسائل الإعلام في تشتيت الجمهور، ولكن هل يستطيع قادة الرأي هؤلاء ألا يصبحوا ضحايا؟
اقرأ/ي أيضًا: